أحدث المشاركات

إعلان أعلى المشاركات

ضع إعلانك هنا

الأربعاء، 27 يونيو 2018

ألا يمكن للحاجة أن تصبح رغبة؟



في نظر ميلاني كلاين، وهي من المحللين النفسيين الأوائل الذين حاولوا تطبيق آليات التحليل النفسي على الأطفال، وقد قادتها ملاحظتها للأطفال وتحليلها لذكريات الراشدين عن مرحلة طفولتهم إلى نتائج مهمة، الأطفال الرضع يرغبون دائما في تواجد الأم (الثدي) معهم سواء أكانوا جياعا أو لا، وقد استنتجت من ذلك أن الثدي يقوم بوظيفتين مزدوجتين الأولى هي إشباع الحاجة البيولوجية للأكل والثانية –وهي الأهم- تجنيب الطفل الخوف والقلق وتخليصه من دوافعه التدميرية وقلقه الاضطهادي، لقد تحول إشباع الحاجة البيولوجية إلى إشباع للرغبة النفسية وكل ذلك يتم بطريقة لا شعورية، وهذا يستدعي أن أي خلل يطال إشباع الحاجات البيولوجية سيكون له أثر على إشباع الرغبات النفسية المرتبطة بها.
إن تحقيق الحاجات يضمن البقاء، وإشباع الرغبات يضمن التميز، مع ميلاني كلاين نلاحظ أن الحاجة يمكن أن تتحول إلى رغبة. فتلازم الحاجة والرغبة هو تلازم للبقاء مع التميز، وبعبارة أخرى إنه تحديد لمستقبل الإنسان بوصفه الموجود الوحيد المميز بالرغبات.
تقول ميلاني كلاين إن الطريقة التي يتم بها إشباع حاجات الرضيع إلى الثدي تترك أثرا عميقا على مستقبله وطبيعة شخصيته، ولكي نفهم هذه الفكرة بشكل أفضل لابد من استحضار فرضية أساسية تنص أن "الطفل أبو الرجل"، بمعنى أن ما يعيشه الفرد من خبرات وتجارب في طفولته سيكون لها أبلغ الأثر في تحديد ملامح شخصيته مستقبلا، فجميع سمات واضطراباتها التي تظهر في الكبر تجد نواتها في مرحلة الطفولة.
بل إن الفن والإبداع نفسه ما هو إلا إعلاء للدوافع والرغبات غير المشبعة، ولكن بشكل غير مباشر، فكمية الإحباط والتفريج الذي تسمح به الأم لطفلها هو المسؤول عن إذكاء نار البحث والتخيل وخلق البديل (جوهر الإبداع) عند الطفل المحبط إحباطا متوسطا، فالطفل الذي يرغب في الثدي ولا يناول إليه مباشرة تكون أمامه فرصة للإحساس بالرغبة وتعويضها بالتخيل والبديل (مص الأصبع) وعندما يناول الثدي تكون أمامه فرصة للربط بين الرغبة/ الحاجة والإشباع، مما يولد نفسه الثقة في نفسه والآخرين.
نستخلص مما سبق أن الرغبة تربط بالحاجة بربط لا تصوري يجعل إشباع الحاجات إشباعا لرغبات مرتبطة بها، هذا الرباط اللاشعوري هو المسؤول عن كثير من المفارقات والإشكاليات التي تثار عن علاقة الحاجة والرغبة.
لقد تناولت ميلاني كلاين إشكالية الحاجة والرغبة من وجهة نظر فردية غير سوسيولوجية، وربطت الإبداع بالتسامي الذي هو في جوهره تحوير لإحباط طال رغبات فردية من "أم غير متفهمة"، وهذه الأطروحة في جوهرها تتناقض مع بعض الأطروحات السوسيولوجية والانتروبولوجية، فرالف لنتن مثلا يربط الرغبة والحاجة وكيفية إشباعها بما هو اجتماعي، ويصنف الحاجات إلى ثلاثة أنواع بيولوجية واجتماعية ونفسية وهي كلها خاضعة لما هو اجتماعي ومقولبة ضمن المجال الثقافي، ومنه فالمجتمع والثقافة يحددان شكل إشباع الحاجة وأنماط تصريفها.
لقد أشرنا فيما سبق إلى أن الثقافة والفن هما وليدتا الرغبة الطامحة إلى تجاوز الحاجة، لكن مالينوفسكي يرى العكس، ويؤكد على أن المجتمع وكل منتجاته هي نتاج لحاجات بيولوجية، فالحاجة إلى التناسل هي التي أدت إلى الزواج وليس العكس، ونضيف على نفس المنوال، أن الحاجة للأمن هي التي خلقت المنازل، والحاجة للراحة هي التي أنتجت الموسيقى.
إن إشباع الرغبات وتحديد موضوعاتها يخضع لمجموعة من الميكانيزمات النفسية والاجتماعية، ولكن هل الرغبة تخضع فقط لما هو نفسي واجتماعي، أم أن هناك عوامل أخرى تتحكم فيها؟
لهذا التساؤل عدة إجابات مختلفة أولها هي إجابة أفلاطون، فهذا الأخير يجعل من الرغبة شهوة لا عاقلة ويجب إخضاعها للعقل والإرادة والتدبر، أما الإجابة الثانية الممكنة فهي إجابة شوبنهور الذي يجعل من العقل مجرد خادم للرغبة، فهو يستعمل جميع الوسائل والتبريرات (أفكار، منطق...) لإشباع الرغبة...
إن العلاقة بين الحاجة والرغبة هي علاقة جد متداخلة ومعقدة تعقد الإنسان نفسه، فهما يتكاملان ويتناقضان ويتمايزان أحيانا أخرى.وإذا سلمنا بكون الرغبة هي أحد أوجه التميز الإنساني فإنه من الصعوبة بمكان تحديد مصدر هذه الرغبة والعوامل المتحكمة فيها، هل هي نفسية أم اجتماعية أم عقلية؟ وإذا كنا نؤمن بتكامل المعارف وتعقد الظاهرة الإنسانية فإنه لا يمكننا التضحية بأي بعد من الأبعاد التي يمكن أن تتدخل في تشكيل الرغبة دون أن نضحي بالفهم المتكامل للإنسان.

======================

الصورة : ميلاني كلاين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

روابط الصفحات الاخرى

زوارنا من العالم

Free counters!

عن الموقع

مدونة التحليل النفسي اليوم هي مبادرة تهتم بالبحث في التحليل النفسي و محاولة لاثراء الثقافة التحليلية النفسية في العالم العربي من خلال تتبع و نشر كل ما يتعلق بالتحليل النفسي كعلاج نفسي و كنظرية

1

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *