أحدث المشاركات

إعلان أعلى المشاركات

ضع إعلانك هنا

الجمعة، 27 ديسمبر 2024

فرانز فانون وجاك لاكان: النظرة، الهوية، و نضال التحرر


ف محمد أمين/ التحليل النفسي اليوم 

تلتقي أعمال فرانز فانون وجاك لاكان، رغم انتمائهما إلى تقاليد فكرية مختلفة، بقوة حول موضوعات الذاتية، الاغتراب، وتشكيل الهوية. ان تحليل فانون للاستعمار، الذي يستند إلى التجربة المعاشة و المادية التاريخية، يتقاطع مع الإطار النفسي التحليلي للاكان، الذي يستكشف بنيات الرغبة الإنسانية و الاغتراب. يظهر هذا التقاطع بشكل خاص عند معالجة "النظرة الاستعمارية"، وفرض الأنظمة الرمزية، والنضال من أجل التحرر.

يهدف هذا المقال إلى استكشاف هذه التقاطعات، خاصة من خلال مفهوم النظرة Gaze، مع تقديم مثال من التجربة الفلسطينية. كما يناقش كيفية معالجة كلا المفكرين للنظام الرمزي وديناميات الرغبة والاعتراف، وصولًا إلى تقديم مسارات نحو التحرر.

النظرة: موقع السلطة والاغتراب

مفهوم لاكان للنظرة

في التحليل النفسي اللاكاني، تشير "النظرة" إلى اللحظة التي يدرك فيها الفرد أنه مرئي من قبل الآخر. تكشف هذه اللحظة عن وهم الفرد بالكمال والاستقلالية، مما يُظهر انقسام الذات. النظرة ليست مجرد فعل مادي يتمثل في المراقبة، بل هي لقاء رمزي يكشف موقع الذات ضمن نظام أوسع.

توجد النظرة، وفقًا للاكان، ضمن النظامين الخيالي و الرمزي، حيث يتم تشكيل الهوية والتوسط فيها عبر اللغة والمعايير الثقافية. تمثل النظرة تذكيرًا باعتماد الذات على الآخر و استحالة تحقيق ذات موحدة، مما يجعلها مصدرًا للاغتراب وموقعًا للسلطة في آنٍ واحد.

النظرة العرقية عند فانون

يبني فانون مفهوم النظرة ليعكس السياق العنصري في عمله بشرة سوداء، أقنعة بيضاء. يصف بشكل حيوي تجربة التعرض للنظرة البيضاء التي تقلل من قيمة الفرد الأسود إلى كائن "آخر". هذه النظرة تفرض هوية ثابتة، وتجرد الفرد المستعمَر من إنسانيته و فاعليته.

في أحد أكثر مقاطع فانون شهرة، يسرد لحظة من التشييء العنصري:

"انظر، زنجي! ... ماما، انظري، زنجي! أنا خائف!" (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء).

تعبر هذه اللحظة عن التأثير اللاإنساني للنظرة البيضاء، التي تغتَرب الفرد الأسود عن نفسه، حيث يصبح تحت هذه النظرة موضوعا للخوف والانبهار، معرّفًا بالكامل عبر هويته العرقية.

التجربة الفلسطينية والنظرة

تعكس التجربة الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني مثالًا قويًا للنظرة الاستعمارية في العمل. في نقاط التفتيش وأبراج المراقبة والمواقع العسكرية، يتم فحص الجسد الفلسطيني وتصنيفه والسيطرة عليه تحت النظرة الاستعمارية. على سبيل المثال، الفلسطيني الذي يعبر نقطة تفتيش يصبح موضوعًا للريبة، حيث يتم اختزال إنسانيته إلى "تهديد" محتمل.

يشبه هذا دينامية تحليل فانون للذات السوداء تحت النظرة البيضاء. النظرة الاستعمارية في فلسطين تُجرّد الفلسطينيين من إنسانيتهم، مما يخلق سياقًا تُبنى فيه هوية الشخص من خلال عيون المستعمر.

ومع ذلك، كما دعا فانون لمقاومة النظرة البيضاء، يتحدى الفلسطينيون النظرة الاستعمارية من خلال أفعال تحدٍ متنوعة، سواء كان ذلك بالعبور بكرامة، مقاومة المراقبة، أو تأكيد ذاتهم عبر التعبير الثقافي من خلال الفنون و الكتابة و التظاهرات الثقافية مثلا و تصحيح هذه النظرة الخاطئة على المسرح و المستوى العالمي.

الهوية والنظام الرمزي

النظام الرمزي عند لاكان

يرى لاكان أن النظام الرمزي هو عالم اللغة والقوانين والمعايير الثقافية التي تشكل ذاتية الإنسان. اذ يتم التوسط فيه عبر ما يسميه لاكان "قانون الأب"، الذي يفرض قيودًا على الرغبة و بنية الهوية. ان دخول النظام الرمزي هو لحظة اغتراب، حيث يتعين على الذات التخلي عن وهم الوحدة الخيالي لتبني هوية مجزأة تشكلها القوى الخارجية.

النظام الرمزي ليس محايدًا؛ بل تحكمه بنيات السلطة التي تملي ما يمكن قوله ومعرفته والاعتراف به. للتحرر الحقيقي، يشير لاكان إلى ضرورة مواجهة "الواقعي" - الجانب الذي يتعذر التعبير عنه ويقع خارج النظام الرمزي.

النظام الرمزي الاستعماري عند فانون

ينتقد فانون النظام الرمزي الاستعماري باعتباره نظامًا يمحو هويات المستعمرين ويفرض قيم المستعمر. اذ تلعب اللغة دورًا مركزيًا في هذه العملية، حيث تصبح أداة للهيمنة والاستيعاب. يقول فانون:

"أن تتكلم يعني أن تكون في موقع استخدام بناء نحوي معين، واستيعاب مورفولوجيا لغة ما، لكنه يعني قبل كل شيء أن تتحمل ثقافة وتدعم وزن الحضارة." (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء).

النظام الرمزي الفلسطيني كأداة مقاومة

في السياق الفلسطيني، يُظهر النظام الرمزي الاستعماري بوضوح في فرض اللغة العبرية والتعليم الإلزامي بمناهج تخدم السردية الصهيونية. إن محاولة محو الهوية الثقافية الفلسطينية تُقابل بمقاومة من خلال التمسك باللغة العربية والحفاظ على التراث الثقافي.

على سبيل المثال، يُعتبر الاحتفاء بالشعر الفلسطيني والموسيقى التقليدية رمزًا قويًا للصمود، حيث تعيد هذه الممارسات التأكيد على الهوية الفلسطينية كجزء من مواجهة النظام الرمزي المفروض. يعد هذا التمسك الثقافي أداة لتحرير الذات من هيمنة الآخر، مما يعيد للفلسطينيين قدرتهم على تعريف أنفسهم.

الرغبة، الاعتراف، والذات المستعمَرة

نظرية الرغبة عند لاكان

يؤكد لاكان أن الرغبة دائمًا ما تكون نتاج نقص، وتتوسطها علاقة الذات بالآخر. يبحث الفرد عن الاعتراف من الآخر، لكن هذا الاعتراف لا يمكن أن يكون كاملاً أبدًا لأنه يمر عبر النظام الرمزي الذي يحجبه. وهكذا، تبقى الرغبة غير محققة دائمًا، مما يُبقي الإنسان في حالة من الشعور بعدم الاكتمال.

الرغبة العرقية في سياق فانون

يعيد فانون صياغة نظرية لاكان عن الرغبة لتتناسب مع سياق الاستعمار. يركز هنا على رغبة الذات المستعمَرة في الاعتراف بإنسانيتها من قِبل المستعمِر. لكن هذه الرغبة تحمل تناقضًا جوهريًا، إذ إن النظام الاستعماري نفسه قائم على إنكار إنسانية المستعمَرين. يقول فانون:

"ما يُسمى غالبًا الروح السوداء هو في الواقع من صنع الرجل الأبيض." (بشرة سوداء، أقنعة بيضاء).

في الحالة الفلسطينية، تظهر هذه الدينامية في السعي للاعتراف الدولي بالحقوق الفلسطينية والهوية الوطنية. على الرغم من ذلك، يوضح نقد فانون أن التحرر الحقيقي لا يمكن أن يتحقق بالسعي للاعتراف داخل النظام الاستعماري، بل يتطلب تدميره بالكامل.

الصدمة النفسية والتحرر

تحرر الذات عند لاكان

يشير لاكان إلى أن التحرر النفسي يتطلب مواجهة "الواقعي" - ذلك الجانب الذي لا يمكن التعبير عنه في اللغة أو النظام الرمزي. فقبول الذات لحقيقة النقص الجوهري في الكيان الإنساني يتيح تجاوز أوهام الكمال التي يقدمها النظام الخيالي والرمزي.

رؤية فانون للثورة والتحرر

بالنسبة لفانون، التحرر ليس فقط نفسيًا، بل أيضًا سياسي وجماعي. هنا يشير بقوة إلى أن:

"إن إنهاء الاستعمار دائمًا ما يكون ظاهرة عنيفة." (معذبو الأرض).

يرى فانون أن على الذات المستعمَرة أن تتحرر من البنيات الداخلية للاضطهاد عبر الفعل الثوري. يشمل هذا الفعل استعادة الفاعلية، مقاومة النظرة الاستعمارية، وتفكيك الأنظمة التي تعزز الاغتراب.

في السياق الفلسطيني، يشتمل التحرر على الصعيدين النفسي والمادي. ان أعمال المقاومة، من الحفاظ على الهوية الثقافية إلى النضال السياسي، تعبر عن محاولات لاستعادة الذات وإثبات الإنسانية في وجه التشييء الاستعماري.

 في الختام يشكل التقاطع بين أفكار فرانز فانون وجاك لاكان إطارًا قويًا لفهم ديناميات الاستعمار والمقاومة و  تقدم قراءة فانون لمفاهيم لاكان، خاصة النظرة والاغتراب، نظرة متعمقة إلى الأبعاد العنصرية والمادية للقهر الاستعماري. وتبرز التجربة الفلسطينية كمثال حي على كيفية عمل هذه الديناميات في الواقع، مما يُظهر أهمية هاذين المفكرين المستمرة في معالجة قضايا الاستعمار والتحرر.

بينما يركز لاكان على البنيات العالمية للذاتية، يصر فانون على تأريخ هذه البنيات و ربطها بالسياقات السياسية و الاجتماعية و  يقدم كلاهما رؤى حول الآليات النفسية والاجتماعية للقهر، بالإضافة إلى المسارات نحو التحرر. يشير المفكران إلى أن الحرية الحقيقية تتطلب مواجهة الأنظمة التي تَغترب الإنسان وتُجرّده من إنسانيته، سواء من خلال الفعل الثوري أو إعادة تصور النظام الرمزي.

المراجع

  1. فانون، فرانز. بشرة سوداء، أقنعة بيضاء.
  2. فانون، فرانز. معذبو الأرض
  3. لاكان، جاك. كتابات  1977.
  4. بابا، هومي ك. موقع الثقافة، 1994.
  5. سعيد، إدوارد. الاستشراق.  
مواضيع أحدث
هذا الموضوع هو الأحدث.
مواضيع أقدم
رسالة أقدم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

روابط الصفحات الاخرى

زوارنا من العالم

Free counters!

عن الموقع

مدونة التحليل النفسي اليوم هي مبادرة تهتم بالبحث في التحليل النفسي و محاولة لاثراء الثقافة التحليلية النفسية في العالم العربي من خلال تتبع و نشر كل ما يتعلق بالتحليل النفسي كعلاج نفسي و كنظرية

1

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *