أحدث المشاركات

إعلان أعلى المشاركات

ضع إعلانك هنا

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2025

المُثقّف ؟



ف محمد أمين/ التحليل النفسي اليوم 


المثقّف هو الكائن الذي لا يهدأ، الحاضر دائمًا في منطقة الأسئلة لا في منطقة الأجوبة، هو من يرى في كل يقينٍ بدايةَ شكّ، وفي كل حقيقةٍ وجهًا خفيًا يحتاج إلى كشفٍ جديد. ليس المثقف حاملًا لمعارفٍ متراكمة فحسب، بل هو من يملك القدرة على تحويل المعرفة إلى وعي، والوعي إلى مسؤولية نقدية تجاه ذاته ومجتمعه والعالم. في اللغة، كلمة "مثقّف" تعني المصقول،  و حتى من الاسماء القديمة للسيوف نجد السيف المُثقّف بمعنى الذي مرّ على نار التجربة، وصقلته يد الزمن حتى صار لامعًا قادرًا على القطع لا الجرح. كذلك المثقف، يصقل نفسه بالقراءة، بالمساءلة، وبمواجهة ذاته قبل أن يواجه الآخرين.

عبر التاريخ، اتخذ المثقف صورًا متعدّدة: عند غرامشي هو المثقف العضوي، المتجذّر في طبقته، الذي لا ينفصل عن واقعه الاجتماعي، بل يسعى لتغييره من الداخل. وعند سارتر، هو ضمير الإنسانية، المتدخّل في الشأن العام باسم القيم لا المصلحة. أما فوكو، فيرى المثقف لا كصاحب حقيقة، بل كمن يفكك أنظمة الحقيقة التي تنتجها السلطة، أي أنه يمارس الفكر كتحرّر من هيمنة الخطاب. وفي الفكر العربي الحديث، من الجابري إلى أركون، نجد المثقف في صراع مزدوج: صراع مع التراث من جهة، ومع الحداثة الغربية من جهة أخرى، يسعى لأن يبني جسرًا بين الماضي والراهن دون أن يسقط في تمجيد الأول أو انبهار الثاني.

ومن وجهة التحليل النفسي، يمكن أن نقول إن المثقف هو من وُجِّهت غريزته نحو المعرفة بدل الإشباع، أي أن الرغبة عنده تحوّلت من الجسد إلى الفكر. فالمثقّف يعيش، كما يقول فرويد، في حالة "تسامي" مستمرة، يحوّل دوافعه اللاواعية إلى إنتاج رمزي: كتابة، فن، نقد، أو فكرة. أما في القراءة اللاكانية، فالمثقف هو من يقف في مواجهة "الآخر الكبير" — السلطة، اللغة، المجتمع — ليكشف أن الحقيقة ليست كلّية، بل منقسمة، وأن الرغبة لا تُروى بالمعرفة بل تُعاد صياغتها عبرها. لذلك، يعيش المثقف في نوعٍ من القلق البنّاء، قلق الفكر الذي لا يجد طمأنينته إلا في استمرارية السؤال.

بالمعنى الأعمق، المثقف هو التحليل النفسي للمجتمع؛ كما يحلل المحلّل نفس الفرد ليكشف لاوعيه، يحلل المثقف بنية الثقافة ليكشف لاوعيها الجمعي: خرافاتها، عقدها، مكبوتاتها، وأوهامها. المثقف الحقيقي إذًا ليس المعلّم فقط، بل هو من يضع المجتمع على أريكته الرمزية، ويجعله يتحدث عن ذاته، عن سلطاته، عن رغباته المكبوتة. فالثقافة تحتاج دائمًا إلى من يصغي إلى لاوعيها، إلى من يترجم آلامها وكبتها إلى كلمات — وهذه هي وظيفة المثقف في أعمق معناها الإنساني والرمزي.


 محمد أمين

مواضيع أحدث
هذا الموضوع هو الأحدث.
مواضيع أقدم
رسالة أقدم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Post Top Ad

روابط الصفحات الاخرى

زوارنا من العالم

Free counters!

عن الموقع

مدونة التحليل النفسي اليوم هي مبادرة تهتم بالبحث في التحليل النفسي و محاولة لاثراء الثقافة التحليلية النفسية في العالم العربي من خلال تتبع و نشر كل ما يتعلق بالتحليل النفسي كعلاج نفسي و كنظرية

1

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *