ابراهيم العريس
إذا استثنينا أطروحة جاك لاكان للدكتوراه وعنوانها «عن النفسية الرهابية في العلاقات مع الشخصية»، والتي طبعتها منشورات «لوسوي» الفرنسية للمرة الأولى في عام 1975 على شكل كتاب، لم يؤلف هذا المحلل النفسي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في فرنسا...
إذا استثنينا أطروحة جاك لاكان للدكتوراه وعنوانها «عن النفسية الرهابية في العلاقات مع الشخصية»، والتي طبعتها منشورات «لوسوي» الفرنسية للمرة الأولى في عام 1975 على شكل كتاب، لم يؤلف هذا المحلل النفسي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في فرنسا وأوروبا طوال عقود من السنين، وكان من أهم ضامني «عودة فرويد» في التاريخ الحديث للتحليل النفسي، أي نصّ على شكل كتاب متكامل طوال حياته. صحيح أنه في المقابل، ألقى عشرات الدروس القيّمة، وكتب العديد من الدراسات لأمهات المجلات التحليلنفسية والعلمية، لكنه لم يتفرغ مرة في حياته لصياغة أي نصّ على شكل كتاب. وهو انتظر حتى أواسط سنوات الستين من القرن العشرين، قبل أن يوافق، كما تقول اليزابيث رودنسكو في السيرة التي كتبتها له، عن جمع نصوصه في مجموعتين من الكتب، أصرّ على أي حال على ألا يدخل فيهما أي تعديل. وهو لئن كان قد وافق في ذلك السياق، على أن تنشر دروسه في سلسلة من الكتب لم تكتمل فصولاً حتى الآن كما يبدو، فإنه وافق في المقابل على أن تُجمع كتاباته الأخرى، غير الجامعية إذاً، في مجلدين اختار لهما بنفسه عنواناً جامعاً هو «كتابات». ويرى مؤرخو حياة لاكان وعمله أن هذه الـ «كتابات» تعتبر الجزء الأكثر اكتمالاً وكثافة في تعبيره عن فكر لاكان، فيما يرون أن «الدروس» (وتقع في 25 جزءاً إضافة الى واحد أخير، لم يكتمل صدورها منذ بدء نشرها في العام 1973)، تضم فكر لاكان الذي كان ينبني خطوة خطوة في العلاقة مع مستمعيه، فيتقدم ويتراجع ويتردد ويتبدل... الخ.
> إذاً، تتألف «كتابات» لاكان من جزءين يضمان معاً أكثر قليلاً من 900 صفحة، وأصدرتهما منشورات «لوسوي» للمرة الأولى في العام 1966. ولئن كانت الدراسات التي يضمها جزآ «كتابات» تتفيّأ بظلال فرويد تحت شعار لاكان الدائم «العودة الى فرويد»، فإنها في الحقيقة تتنوع في مواضيعها تنوّع المناسبات التي كتبت فيها او من وحيها. وحسبنا أن نشير هنا الى بعض العناوين لندرك هذا: «ما وراء مبدأ الواقع»، «العدوانية في التحليل النفسي»، «مدخل نظري حول وظائف التحليل النفسي في علم الجريمة»، «وظيفة وحقل الكلام واللغة في التحليل النفسي»، «تعليق وردّ على جان هيبوليت»، «الغرض الفرويدي»، «التحليل النفسي وتدريسه»... «في ذكرى إرنست جونز»، «شباب جيد او رسالة الرغبة»، «كانط مع ساد»، «العلم والحقيقة»... ويصحب هذه الدراسات العديد من الملاحق والتفسيرات، ما يجعلها عملاً متكاملاً، يكشف للقارئ كما يقول لاكان نفسه: «إن القارئ يتعلم من هذا أن اللاوعي انما ينتمي الى المنطق الخالص، اي بكلمات أخرى الى عالم الدالّ» وبالتالي لا يتعيّن الإستهانة به بأي حال من الأحوال.
> والحقيقة أن ظهور هذه المجموعة من الكتابات في كتاب واحد من جزءين كان حدثاً في أواخر العام 1966، حيث تقول اليزابيث رودنسكو، أن خمسين ألف نسخة بيعت خلال شهور من الطبعة الأساسية، فيما بيع نحو 180 ألف نسخة من طبعة الجيب الشعبية. علماً أن مئات المقالات الصحفية تناولت ذلك الإصدار ما أضفى على لاكان شعبية مدهشة في الأوساط الجامعية وجعله يعتبر «معلّماً من معلّمي الفكر» وليس مجرد «أستاذ في التحليل النفسي». ومنذ ذلك الحين، وعلى ضوء واقع أن لاكان لم يخف ولو في صفحة واحدة من صفحات دراساته، كونه يكتب تحت ظلّ أستاذه فرويد وانطلاقاً من مجمل أعمال هذا الأخير، راح كثر من مؤرخي التحليل النفسي يتساءلون ولا يزالون حتى اليوم: ترى أي مصير كان في إمكانه أن يكون لفرويد وأعماله، لولا الجهود التي بذلها الفرنسي جاك لاكان من أجل إعادة إحيائهما، طوال المرحلة التي توسطت القرن العشرين وصولاً الى الزمن الراهن؟
> إن من ينظر الى تاريخ التحليل النفسي في تفاصيله الصغيرة وفي حضوره من خلال العمل الجامعي، قد يجد هذا السؤال غريباً، فالفرويدية لم تمت كمادة للدراسة، ولا حتى كمنهج يتبعه العديد من المحللين النفسيين والكتاب والنقاد والمؤرخين، بل إن من المعروف انه كانت هناك عودة الى الفرويدية متصالحة مع الماركسية من طريق العديد من الباحثين الأميركيين، او المقيمين في أميركا من أمثال ويلهلم رايش صاحب كتاب «الثورة الجنسية»، غير أن الناظرين الى التحليل النفسي بوصفه علماً، وانعطافة في تاريخ الفهم الانساني، أي لفرويد كمبدع كبير، وليس كمجرد تقني، يجدون للسؤال مشروعيته، ويتوقفون مطولاً، بالتالي، عند الدور الكبير الذي لعبه جاك لاكان في إعادة إحيائه للفكر الفرويدي، وليس للتقنية الفرويدية.
جاك لاكان، الذي رحل عن عالمنا في العام 1981، أي تقريباً في الفترة الزمنية نفسها التي خسرت فيها فرنسا بعض كبار علمائها ومفكريها من جان - بول سارتر الى رولان بارت، ومن ريمون آرون الى ميشال فوكو، كان حتى من دون أن يريد ذلك او يعيه، أحد أصحاب الأسماء الفكرية التي ارتبطت اسماؤها بتحركات طلاب ايار (مايو) 1968 الفرنسي الصاخب، فهو الذي وفّر الجانب العلمي التحليلنفسي لتلك الحركة الفكرية الهائلة التي أنتجت أول انتفاضة ثقافية حقيقية في طول القرن العشرين وعرضه. ومع هذا يعتبر لاكان، بالقياس الى غيره من المفكرين الفرنسيين، الأكثر هدوءاً ورغبة في الابتعاد عن حركة الشارع.
> ولد لاكان في العام 1901، وانصرف في شبابه لدراسة الطب حيث وضع أطروحة دكتوراه حول «العصاب الهلوسي»، وكانت العمل الوحيد الذي وضعه ككتاب مكتمل، لأن كل ما نشر للاكان بعد ذلك انما كان المدوّن من دروسه الجامعية التي كان يلقيها شفهياً على طلابه في مستشفى سانت - آن اولاً، ثم في مدرسة الدراسات العليا التي شهدت أجمل ساعات تألقه كما أشرنا أعلاه ناهيك بدراساته التي نشرها متفرقة.
> منذ بداياته كان لاكان فرويدياً من دون لبس او غموض، تحمّل وحده في فرنسا على الأقل، عبء الإرث الفرويدي، في زمن كان فرويد قد بدأ فيه يبدو وكأنه قد أضحى خارج «الموضة» الفكرية. ولدعم الفكر الفرويدي وتطويره لم يكتف لاكان بالعمل الجامعي الذي انتج عشرات الدراسات والمحاضرات التي خاض فيها كل انواع البحوث الأدبية والفكرية والطبية والنفسانية وما الى ذلك، بل انه تجاوز ذلك الى تأسيس العديد من التيارات والمدارس. وعلى الدوام كانت كلاسيكية لاكان في دفاعه عن فرويد، ورغبته في إكمال مسيرته وتطويره من داخله لا من خارجه، تصطدم بتمردية الآخرين، مما كان ينتج سلسلة الصراعات والخلافات والانشقاقات التي اشتهر لاكان بخوضها، ومن ذلك مثلاً قطيعته مع المجموعة الفرنسية التابعة «جمعية التحليل النفسي العالمية، ومن ثم تأسيسه الجمعية الفرنسية للتحليل النفسي (1953) ومن ثم انشقاقه عنها وتأسيسه لـ «المدرسة الفرويدية في باريس» (1963) وما إلى ذلك. وفي تلك الأثناء كان لاكان يتوقف عن إلقاء الدروس الشفهية التي قبل أن تجمع في عدد كبير من الأجزاء لاحقاً، كانت ذات شعبية كبيرة حيث قرئت من قبل عشرت الألوف وترجمت الى لغات عديدة، وساهمت بالتالي في إبقاء فرويد وانجازاته حية. ولعل من اجمل تلك الدروس السلسلة التي كرسها لاكان لدراسة شخصية «انطيغون» وعلاقتها بالدوافع الجنسية.
> هل معنى ذلك أن دفاع لاكان عن فرويد وانجازاته كان دفاعاً أعمى؟ أبداً... بالتأكيد. اذ لو أننا قرأنا اليوم نصوص لاكان بإمعان سيكون في إمكاننا أن ندرك أهمية التطوير النقدي الذي مارسه لاكان خلال كتابته عن فرويد او انطلاقاً منه، وهو بعدٌ أدركه جيل دولوز وفيلكس غاتاري في كتابهما المشترك «انتي - أوديب» حيث انطلقا من لاكان وضده، لكي يكشفا عن الأسلوب الذي به انطلق لاكان من فرويد و... ضده في بعض الأحيان. ولعل ما حبّب لاكان الى قرائه هو ذلك التنوع في تناوله الكتابي، حيث اختلطت لديه الفلسفة بالأدب، العلم بالدين، والأبعاد الثقافية بالدوافع الجنسية، ضمن صيغ صحيح انها كانت تدين لفرويد بالكثير، لكنها عرفت في بعض الأحيان كيف تتجاوزه، تجاوزاً لا يزال حتى يومنا هذا، وبعد أكثر من ربع قرن مضى من رحيل لاكان في حاجة الى أن يُكتشف.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق