يمر الطفل خلال حياته بمراحل متعددة يتعرض فيها لعدة أزمات تعرقل نمو الطبيعي، ولعل أبرز خبرة نفسية مؤلمة يعيشها هي الانفصال ابتداء من صدمة الميلاد، مرورا بالفطام ثم الانفصال ، وصولا إلى الوضعيات الأخرى كالابتعاد المؤقت عن الأم في الحالات الإستشفائية وكذا الدخول المبكر للروضة والمدرسة.
وإذا أخذنا العامل المسبب للقلق فنرى أنه يرمز إلى الانفصال عن الأم بمعنى بيولوجي في أول الأمر، ثم بمعنى فقدان مباشر للموضوع، و نظرا لأهمية هذا العنصر خصصنا له هذا المقال لنعرض في أهم وجهات نظر المحللين له.
1-1 القلق: للقلق تأثير كبير في نشوء الأمراض العصابية، بل أنه في الحقيقة العامل الأساسي في نشوئها لذلك تعتبر دراسة القلق من أهم الدراسات الرئيسية في مشكلة الأمراض العصابية، وقد كان فرويد أول من سبق إلى الإشارة إلى ذلك، ولهذا سنحاول أن نشرح التطور الذي حدث في مفهوم القلق عبر أهم النظريات المفسرة للقلق.
1-1-1 تعريف القلق/ الحصر:
القلق اوما يسمى في التحليل النفسي بالحصر حالة من الخوف الغامض الشديد الذي يتملك الإنسان ويسبب له كثيرا من الكدر والضيق والألم. .إذن حسب فرويد القلق هو استجابة انفعالية أو خبرة إنفعالية مؤلمة يمر بها الفرد وتصاحب باستشارة العديد من الأجهزة.
كما تتفق " كارين هورني" مع فرويد في تعريف كل من القلق والخوف حيث تعرفه على أنه استجابة انفعالية لخطر يكون موجها على المكونات الأساسية للشخصية.
ويعلق هاري سوليفان أهمية كبيرة على العلاقات الاجتماعية بين الطفل وبين الأفراد المهمين في بيئته خاصة الأم، حيث يعرف سوليفان القلق على أنه حالة مؤلمة للغاية تنشا من معاناة عدم الاستحسان في العلاقات الاجتماعية.
كما يعرفه سيلامي Norbert Sillamy على أنه إحساس حاد بالألم العميق. المحدود بالشعور الغامض للخطر، مما يجعل الفرد الضعيف غير قادر على الدفاع على نفسه.
1-1-2 أنواع الحصر:
لقد ميز فرويد بين نوعين من الحصر: الحصرالموضوعي و الحصرالعصابي :
1-1-2-1 الحصرالموضوعي:
الحصرالموضوعي هو الخوف من خطر خارجي معروف كالخوف من حيوان مفترس أو من الحريق أو من الفريق، هو أمر معقول بما أن الإنسان يخاف عادة من الأخطار الخارجية التي تهدد حياته.
1-1-2-2 الحصرالعصابي :
الحصرالعصابي هو خوف غامض غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه، ويأخذ هذا الحصريتربص الفرص لكي يتعلق بأية فكرة أو بأي شيء خارجي، أي أن هذا الحصر يميل عادة إلى الإسقاط على أشياء خارجية.
1-1-3 أهم النظريات المفسرة الحصر: اختلفت آراء العلماء حول تفسير الحصركل من زاويته الخاصة، بحيث سعى كل واحد منهم إلى تأكيد موقفه وإعطاء براهين على ذلك. انطلاقا من آراء فرويد الأولى ثم آراءه الثانية، بعد تعديل الآراء الأولى دخولا بعدد كبير من النظريات نحاول أن نذكر البعض منها.
1-1-3-1 نظرية فرويد الأولى في الحصر: لم تظهر الصياغة النهائية لهذا النظرية إلا في سنة 1926 وبالتحديد في كتاب "inhbistion, symptome et angoisse" الكف، العرض والحصر" أين أرجع فرويد الحصرإلى الخوف من الفراق وفقدان الموضوع حيث استطاع أن يصل إلى مفهوم مؤقت وهو أن الكبت يولد الحصر، فعندما لا تشبع الرغبة الجنسية، تكبت وبالتالي تولد ابتدءا من لحظة عدم إشباع النزوة".
وباعتبار حالة الطفل لاحظ أن الحصرفي الأصل شعور ناتج عن غياب الشخص الحبوب، فالطفل ينفعل عند فقدانه لأمه الشيء الذي ينتج الحصرالمصاحب للولادة، والذي هو حصر الانفصال عن الأم، ويفسر فرويد هذا بأن الطفل في هذه الحالة يشعر بشوق شديد نحو أمه، وعدم إشباع هذا الشوق يتحول إلى الحصر.
وأخيرا ينتهي فرويد إلى أن الحصرينتج عن كبت رغبة جنسية أو إحباطها ومنعها من الإشباع، وحينما تمنع الرغبة الجنسية من الإشباع تتحول على الحصر، ويتم هذا التحول بطريقة فيزيولوجية بحتة، وهذا ما أدى إلى إبعاد موضوع الحصرعن نطاق التحليل النفسي لمدة من الزمن.
1-1-3-2 نظرية فرويد الثانية في الحصر: عاد فرويد مرة أخرى إلى دراسة الحصر دراسة تفصيلية دقيقة وبحث عن العلاقة الموجودة بين الحصرونشوء الأعراض العصابية. حيث توصل فرويد إلى تقديم صيغة جديدة أكثر إقناعا في نظرية الحصر، أين أبرز الحصركوظيفة من وظائف الأنا، وهو الذي ينتج الكتب، أي أن الحصرهنا يستعد لمجابهتها. وشعور الحصرالذي يحس به الفرد حينما يتوقع الخطر هو عبارة عن تكرار لشعور الحصرالذي هو من جهة توقع حدوث خطر أو صدمة في المستقبل، ومن جهة أخرى تكرار الحالة خطر أو حالة صدمة سابقة في صورة محققة.
لقد اهتم فرويد بالبحث في حالة الخطر الأولى التي يمر بها والتي يمكن أن تثير الحصر لأول مرة، فتوصل إلى أن حصرالطفل الصغير كرد فعل عن غياب الأم وفقدان الموضوع، يمكن مقارنته أيضا بالحصرالمصاحب للولادة والذي سببه هو الانفصال عن الأم، وكذا بحصرالخطأ الذي مصدره الخوف من فقدان موضوع مهم وهو القضيب.
وعملية الميلاد هي الخطر الأول الذي يتعرض له الفرد، والحصر الأول الذي يصاحب هذا الخطر هو النموذج الأصلي لكل حالات الحصرالتالية ولهذا يقول فرويد " ... نحن ميالون على افتراض وجود عامل تاريخي يجمع بين إحساسات الحصروبين تنبيهاته العصبية بدقة، أي وجود عامل تاريخي يجمع بين إحساسات الحصر وبين تنبيهاته العصبية بدقة، أي أننا نفترض أن حالة الحصرتنشأ عن خبرة ما تتضمن الشروط الضرورية يمثل هذه الزيادة في التنبيه ويمثل هذا التفريغ في مسالك معينة، وأن الكدر/لالذة الحصر يستمد سمته الخاصة في هذه الظروف. والميلاد بالنسبة إلى الإنسان خبرة نموذجية من هذا النوع، ولذلك يمثل إلى اعتبار حالات الحصركأنها ناشئة من صدمة الميلاد".
ولو نمعن النظر في مقولة فرويد لوجدنا أنه هناك تقارب من وجهة نظر اقتصادية بين عملية الميلاد وغياب الأم، ففي الحالتين هناك تصاعد في التوتر تحت تأثير فيزيولوجي خارجي عند الميلاد، وبالرجوع عند الانفصال عن الأم فيما بعد، وهذا الانفصال يولد الحصرحتى وإن لم يكن هناك إحساس بالجوع وهذا ما يسمح بالمرور من حصرإلى لا إرادي مرتبط بحالة الخطر، إلى حصرإرادي كنتيجة للإشارة بالخطر. ولهذا يكون الحصر عنصر من وظائف الأنا.
إذن فقدان الموضوع أو مجرد احتمال الفقدان يحدد الحصر. وبهذا يمكن أيضا تفسير حصر الخطأ بما أن امتلاك القضيب يضمن إمكانية الارتباط بالأم وفقدانه يعني فقدان الأم.
1-1-3-3 نظرية أتو رانك: يذهب رانك إلى الإنسان يشعر في جميع مراحل نمو شخصيته بخبرات متتالية من الانفصال، وهو يعتبر الميلاد كأول وأهم خبرة للانفصال تمر بالإنسان وتسبب له صدمة مؤلمة، وتثير فيه حصرشديد. وقد سمي رانك هذا الحصر بالحصر الأولي، ويستمر مع الإنسان فيما بعد حلول حياته، ابتداء من لحظة الانفصال فيما بعد من أي نوع كان مسببا للحصر، فالفطام يثير الحصرلأنه يتضمن الانفصال عن الأم، والذهاب إلى المدرسة يثير الحصرلأنه يتضمن الانفصال عن الأم، والزواج يثير الحصر لأنه يتضمن الانفصال عن حياة الوحدة، إذن الحصرفي رأي اتورانك هو الخوف الذي تتضمنه هذه الانفصالات المختلفة.
والحصر الأولي يتخذ صورتين تستمر مع الفرد في جميع مراحل حياته وهما خوف الحياة وخوف الموت، فخوف الحياة هو حصرمن التقدم والاستقلال الفردي ويظهر هذا الحصر عند احتمال حدوث أي نشاط ذاتي للفرد، أو عند ما يريد الفرد أن يكون علاقات جديدة مع الناس....إلخ، والحصر هنا يظهر لأن هذه الإمكانات تهدد الفرد بالانفصال عن علاقاته وأوضاعه السابقة.
أما خوف الموت فهو عكس خوف الحياة، فهو حصرمن التأخر وفقدان كل فرد يشعر بهذين الحصرين وهو دائم التردد بينهما. والعصابي هو الذي لا يستطيع أن يحفظ التوازن بين هذين الحصرين.
1-1-3-4 نظرية كارين هورني: تتفق كارن هورني مع فرويد في تعريف كل من الحصر والخوف بأنه رد فعل انفعالي للخطر .
لقد اهتمت هورني بالدوافع العدوانية ورأت في شدة هذه الدوافع أهم مصدر للخطر والذي بدوره يثير الحصريتمثل في خوف الفرد من توجيه هذا العدوان إلى الأشخاص الذين لهم مكانة عنده.
لن توجيه العدوان إليهم سيؤدي إلى فقدان جبهم وعطفهم وإلى قطع علاقته بهم، وهو أمر لا يستطيع الفرد احتماله ولذلك يكتب الطفل عادة دوافعه العدوانية، بما أن الشعور العدواني خاصة نحو الأم يولد الحصر.
وسمت هورني الحصرالذي يسبب العصاب بالحصر الأساسي، وذلك من ناحيتين : فأولا لأنه أساس العصاب ، وثانيا لأنه ينشا في المرحلة الأولى من الحياة نتيجة اضطراب العلاقة بين الطفل ووالديه وهذا الاضطراب هو الذي يسبب للطفل الحرمان من الحب والعطف الحقيقيين، والطفل الذي لا يشعر بالحب والاحترام في سنواته الأولى يميل إلى إظهار الكره والعداء نحو والديه ونحو الأشخاص الآخرين. وبما أن الطفل يعتمد على والديه في كل شيء فهو لا يستطيع إظهار هذا العدوان وهذا ما يؤدي إلى كذبت الشعور العدواني، ثم إلى الحصر، إذن هناك تفاعل متبادل بين العدوان و الحصرفكل منهما يقوي ويساعد الآخر.
1-2 حصرالانفصال
1-2-1 تعريف الانفصال
لغويا: الانفصال من الفعل انفصل وهو ضد اتصل.
اصطلاحا: الانفصال هو نزع جزء من الكل المكون له، أو انفصاله عنه مما يغير في بنية كل منها.
ويعرفه Norbert Sillamy في قاموسه على انه إبعاد الأفراد عن الكائنات أو الأشياء.
1-2-2 تعريف الحصر بالانفصال
حصرالانفصال يتمثل في حالة عدم الارتياح والاضطراب والهم الذي يظهر نتيجة للخوف المستمر من فقدان الأشخاص المحبوبين والمرغوبين حيث يقول:" الحصرعند الأطفال ليس أصل شيء آخر غير عاطفة فقدان الشخص المحبوب".
أما المراجعة الرابعة للدليل التشخيصي الإحصائي للأمراض العقلية DSM4 فقد عرفت حصرالانفصال على النحو التالي:" حصرالانفصال هو حصرشديد بسبب الانفصال عن الأفراد الذين يتعلق بهم الطفل أو بسبب الانفصال عن البيت" (DSM4, 2004, p523 ) وهذا يعني أن حصرالانفصال حسب هذا الدليل –DSM4- هو الخوف من الوحدة بأسلوب متزايد أو الخوف من الابتعاد عن الشخص الذي يتعلق به تعلقا شديدا في البيت أو في مكان آخر.
1-2-3 التعريف الإجرائي لحصر الانفصال : يمكن تعريف حصرالانفصال إجرائيا على النحو التالي:
حصرالانفصال هو الحصرالذي يصاب به المرء لدى انفصاله عن شخص يعتقد بضرورة وجوده في حياته، أو هو الحصرالشديد المرتبط بحالة عدم الارتياح بسبب الانفصال عن الأفراد الضروريين في حياة الطفل.
1-2-4 أعراض حصرالانفصال: تظهر عدة أعراض يمكن تشخيصها من حصرالانفصال حيث أورد DSM IV المعاير التشخيصية للاضطراب حصرالانفصال على النحو التالي:
* النمو الغير المناسب، وقلق متزايد متصل بالانفصال عن البيت أو عن من يتعلق بهم الطفل تعلقا شديدا.
* الألم المتكرر الشديد عند توقع الانفصال عن البيت أو من يتعلق بهم تعلقا شديدا.
* قلق دائم و متكرر لفقدان شخص عزيز أو توقع حدوث له ضرر أو كارثة.
* قلق دائم و متزايد جراء حدث مكروه سيؤدي إلى الانفصال عن شخص عزيز.
* الإصرار على الرفض و المقاومة و الكراهية للذهاب للمدرسة أو إلى أي مكان آخر بسبب الخوف من الانفصال عن الأم.
* الإحجام المستمر، أو رفض الذهاب إلى النوم دون أن يكون بجوار من يتعلق بهم تعلقا شديدا، و هذا ما يظهر في رفض النوم بعيدا عن البيت.
*الكوابيس المزعجة المتكررة و التي تأخذ طابع الصداع، ألم في المعدة، الغثيان، القيء و هذا عند حدوث أو توقع الانفصال من الأشخاص الذين يتعلق بهم أو الذين تكون لديهم منزلة كبيرة في نفسية الطفل.
1-2-5 الأسباب المؤدية لحصر الانفصال:
1-2-5-1 صدمة الميلاد: تعتبر عملية الميلاد كأول صدمة نفسية عنيفة، وأول حالة خطر يعيشها الطفل .إذ أن ما تحدثه من تصدع اقتصادي يصبح النموذج الأصلي للاستجابة القلق. حيث أنها ترمز إلى الانفصال عن الأم بمعنى بيولوجي في أول الأمر، ثم إلى فقدان الموضوع فيما بعد و بطريقة غير مباشرة.
يعتبر أوتورانك أول من تكلم عن صدمة الميلاد حيث يعتبرها كأول و أهم خبرة للانفصال يمر بها الإنسان و تسبب له صدمة مؤلمة، و تثير فيه قلقا شديدا. و قد سمى رانك الحصرالذي تثيره صدمة الميلاد بالحصر الأولي.
وصدمة الميلاد بمعناها الرمزي تعني الانفصال عن الأم، و بالتالي يصبح كل انفصال فيما بعد مسببا لحصر، فالفطام يثير الحصربما أنه يتضمن الانفصال عن ثدي الأم، و المدرسة تثير الحصر بما أنها تتضمن أيضا الانفصال عن الأم... إلخ. و كل هذه المعاناة تترك دلالات هامة على النمو النفسي للطفل مستقبلا.
1-2-5-2 الفطام: هو منع الثدي عن الطفل. و من الناحية النفسية الانفعالية يعني الانفصال عن ثدي الأم، و بالتالي الانفصال عن الأم، بما أن ثدي الأم تحقق إشباعات بيولوجية هامة. بحيث تصبح الأم مصدر ارتياح الطفل باعتبارها العنصر الوحيد الذي يلب حاجاته الغذائية و العاطفية في نفس الوقت.
إن حرمان الطفل من ثدي الأم مبكرا يؤدي إلى اضطرابات نفسية الأمر الذي يؤثر سلبا على نموه الجسمي و العاطفي، إضافة إلى إثارات الحصر الأولي –الموصوف من طرف أوتورانك – و بالتالي الشعور بالإكتئاب، عدم الانسجام و بروز ملامح الكره والحقد و العنف لديه لاحقا و لهذا حدد الله عز و جل الفطام في حوالي عاميين حيث يقول في سورة البقرة: » و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة «. ( سورة البقرة آية 232).
1-2-5-3 غياب الولدين: إن للولدين أهمية كبيرة في تكوين العلاقات الأسرية. فعلاقة الولدين بالأبناء تؤثر و بشكل كبير في سلوكاتهم و جوانب عديدة في شخصيتهم، و الأسرة تتكون من عدة أفراد و فيها فردين يكونان أكثر تمييزا و هما الأب و الأم و لكل منهما دور خاص في تنشئة الطفل و يكون لغيابهما أثر كبير على نفسيتهم.
1-2-5-3-1 أثر غياب الوالدين: للأم الدور الكبير في عملة تنشئة الطفل و قد أكد جون بولبي Bowlby هذا حيث يقول: »إن علاقة الأم بالطفل هي بدون شك العلاقة الأكثر أهمية خلال سنوات الطفل الأولى، و أي حالة تمنع الطفل من هذه العلاقة تسمى بالحرمان الأمومي « . فالأم بوجودها تشبع كل حاجات الطفل بيولوجية كانت أم نفسية عاطفية، و غيابها المؤقت أو الدائم يعني عدم وجودها و بالتالي عدم إشباع الحاجات و هذا ما يدفع بالطفل إلى الإحساس بقلق حاد سببه انفصاله عن أمه.
و الكثير من الدراسات أكدت أن تأثير انفصال الطفل عن أمه يختلف باختلاف سن الطفل. فغياب الأم في الأيام الأولى من حياة الطفل – خاصة إذا وجد الطفل بديل أمومي يعطيه العناية و الرعاية – يكون اخف مقارنة بغيابها في السن الثانية و ما بعدها، فالطفل هنا يشعر بأن شيئ من كيانه قد فقد و لا يمكن تعوضه، وهذا ما يجعله يعيش في حالة توتر دائمة.
1-2-5-3-2 أثر غياب الأب : عندما نتكلم عن الأم و دورها في حياة الطفل لا يعني أننا قد أهملنا دور الأب في تكون شخصية الطفل خاصة إذا كان الاتصال بينهما منظم و متكرر منذ الولادة. فالأب يمثل بالنسبة للطفل السلطة الضابطة أو المثل الأعلى يجب الإقتداء به، و كلما كانت العلاقة أب/طفل أمينة يملؤها الحب والحنان والعطف كلما نشأ الطفل في صحة جيدة و بنية جسمية قوية. أما في حالة ما تدهورت هذه العلاقة فإنها تدفع بالطفل إلى الشعور بالكراهية لأبيه و الغيرة من أخوانه و كرههم حيث تسوء بذلك حالة الطفل النفسية، مما يجعله يعيش في تجاذب وجداني يسبب له قلق حاد .
1-2-5-4 المدرسة:تعتبر المدرسة كأهم مرحلة يدخل إليها الطفل حيث أن الطفل ينفصل و لأول مرة عن محيطه العائلي و يلتحق بمحيط جديد مملوء بالمخاطر و المخاوف في نظر الطفل، و هذا ما يدفع بالطفل إلى رفض المدرسة و إبداء قلق شديد عندما يجبرون على الذهاب إليها.
و يلاحظ أن الأطفال الصغار الذين ينفرون من الذهاب إلى المدرسة عادة هم أطفال ينالون رعاية زائدة من أمهاتهم، و هذا دليل على أن الطفل لم يخف من المدرسة في حد ذاتها بل يخاف من فقدان أمه و لم يقوى بعد على الانفصال عليها. هذا ما ذهبت إليه الدراسات الحديثة التي حاولت أن تدرس موضوع خواف المدرسة La phobie scolaire حيث أكددت أن الطفل في المراحل الأولى من حياته يخاف من المدرسة كونه يخاف من فقدان أمه. لأنه يخاف أن تحدث له و لأمه أشياء مزعجة في وقت انفصاله عنها.
1-2-5-5 أسباب أخرى: *عدم النضج الانفعالي، فالأطفال الصغار الذين لم يبلغوا درجة عالية من النضج الانفعالي، و يتعلقون تعلقا كبيرا بصورة الأمومة يتعرضون بصفة خاصة لحصر شديد بسبب الانفصال عن الأم.
*درجة الارتباط بالأم. كلما كانت درجة ارتباط الطفل بأمه عالية تكون درجة الإصابة بحصر الانفصال أقوى.
*مرور الطفل بخبرات انفصال عابرة مرتبطة بأنواع عديدة من الأسباب كولادة أخ صغير، الحالان الإستشفائية* ، النزاعات التي تحدث بين الأبوين...
1-2-6 التشخيص الفارقي لحصرالانفصال: عند تشخيص حصرالانفصال، ينبغي تمييزه عن الاضطرابات الأخرى و التي قد تكون بينها و بين حصرالانفصال علاقة أو أعراض متشابهة و من ذلك:
* القلق العادي أو المعمم: في بعض الأحيان يحس الطفل بقلق قد يكون ظاهرة عادية ، لأن القلق المعمم لا يكون مركزا على مواقف الانفصال فقط، بل على أحداث أخرى أيضا: كالخوف من الحيوانات.
* الاكتئاب: إن تشابه أعراض قلق الانفصال و الاكتئاب، يجعل تشخيصهما صعب. لذا يجب إجراء تشخيص خاص لمعايير و محكات حصرالانفصال، بما أن الأعراض تتفق في كلا الاضطرابين.
* الهلع و الخوف المرضي من الأماكن الفسيحة: خاصة إذا علمنا أن هذا الاضطراب لا يحدث قبل سن 18 سنة، و ليس بسبب حدوث الانفصال. إلا أنه في بعض الحالات تتفق أعراض هذا الاضطراب بأعراض حصرالانفصال.
* بعض الاضطرابات السلوكية: و التي تكون أسبابها أمراض أخرى غيرحصرالانفصال.
* رفض الذهاب إلى المدرسة: على أنه من الأعراض الشائعة لحصر الانفصال، لكن في بعض الأحيان يبقى بعيدا كل البعد عنه. فالأطفال الذين يعانون من اضطرابات أخرى كالمخاوف المرضية، و الاضطرابات السلوكية يبدون رفضا تاما للذهاب إلى المدرسة.
* المخاوف الحقيقية: قد يتعرض الطفل لعدوان خارج البيت أو في المدرسة، مما يجعله يرفض الخروج من البيت، وهذا ليس بسبب الخوف من الانفصال، بل يجب تقصي هذه المخاوف وصولا إلى تحديدها.
2- حصرالانفصال و فقدان الموضوع حسب المحللين:
2-1 حصرقلق الانفصال التطوري:L’angoisse de developpemental
وصف حصرالانفصال التطوري من طرف D.Bailly. و هو المعطيات المادية الإجبارية و المنتظرة في سياق النمو الخاص لكل طفل. وهذه المعطيات موجودة عالميا و تظهر عند كل الأجناس و الثقافات. هذه الظاهرة التي تخص استجابة حزن عندما يصبح الرضيع منفصل من الحضور الفيزيائي للصورة الأمومية. حيث تظهر ابتداءا من الشهر السادس و في بعض الحالات قبل ذلك، أي حتى في الشهر الثالث. و تظهر عند معظم الأطفال دون أخذ بعين الاعتبار بالفارق الجنسي. حتى و لو كانت نتائج الدراسات حول هذا الموضوع تؤكد على وجود اختلاف في شدة هذه الظاهرة.
2-1-1 حصرالانفصال التطوري حسب SPITZ بين الشهر الثالث و السادس، يبتسم الطفل لأي وجه إنساني، عائلي كان أو غير عائلي. و بين الشهر السادس و الثامن يظهر الطفل قلق بدرجات متفاوتة عند مقابلته لوجه إنساني غير مألوف. حيث يرفض الاتصال و تظهر عليه علامات القلق و الحصر، و حسب SPITZ فإن الرضيع يكتشف على أن هذا الوجه ليس بوجه أمه، و يكفي حضور الأم للتخفيف من هذه التظاهرات. و هنا تكلم SPITZ عن قلق الشهر الثامن و الذل يخص تأسيس الموضوع اللبيدي و كذا القدرة على التعرف على وجه الأم، أي القدرة على امتلاك صورة ذهنية. وقد اعتبره SPITZ كمنظم نفسي ثاني.
و في عام 1946 و صف SPITZ الاكتئاب الاتكالي dépression anaclitique عند أطفال الشهر السادس و الثامن و المنفصلين عن أمهاتهم دون وجود سند عاطفي. وعندما لا تكون العلاقة أم/طفل مشبعة داخليا و كليا، فالأمر هنا يتعلق بحالة حرمان أمومي. أين نلاحظ أولا مرحلة الرفض المصاحبة بالبكاء و التشبث بالراشد، ثم تأتي مرحلة اللامبالاة indifférence متسمة برفض الاتصال، بأرق شديد، بفقدان الشهية و بحساسية كبيرة للأمراضinfectieuse. كما يلاحظ أيضا على الطفل خلال هذه المرحلة توقف نسبي في النمو، وتتوقف هذه الاضطرابات إذا وجد الطفل ثانية الأم أو البديل الأمومي الكافي وهذا خلال الثلاثة أشهر. إما إذا استمر الانفصال أكثر من هذه المدة، تتدخل مرحلة ثالثة يلاحظ فيها: بكاء دون توقف، يظهر الطفل على هيئة جامدة غير مبالي بأحد، فقدان الوزن و التأخر الحركي الذي يظهر جليا. و بعد خمسة أشهر من الانفصال نلاحظ استجابة تدعى الاستشفاءhospitalisme، أين يبقى الطفل ممدا على ظهره، فاترpassif، ذو ملامح خالية من أي تعبير، و نسبة النمو في تناقص مستمر. و في بعض الأحيان حركات على شكل اختلاجات زائفةpseudo athétosique في الظهر، و أرجحة الرأس. إذا الاضطرابات تكون غير انعكاسية و ينتج عنها احتمال الموت.
2-1-2 حصرالانفصال التطوري حسب Bowlby:
يفرقBowlby بين الانفصال و الفقدان، حيث يرى أنه يمكن أن نتكلم عن الانفصال عندما يكزن الموضوع لا يمكن إدراكه حاليا. و الفقدان عندما يكزن غير ممكن إدراكه نهائيا. و هنا نهتم عامة بالوضعيات أو الموضوع الغير مدرك، إذ هو يمثل الانفصال أو فقدان الموضوع.
في بادئ الأمر يظهر الطفل ملاحظات خلال السنة الأولى و الرابعة و ذلك في وضعيات الانفصال عن الأم. وهذا الانفصال يستثار أولا بحزن والحصر يظهر على شكل نوبات des crises من البكاء و سلوكات تهدف في مجملها إلى الاتصال بالأم. ثم تليها انخفاض في نشاط الطفل و انخفاض في السيرورات الغذائية، و فترات النوم و التي يمكنها أن تستدعي الأعراض الاكتئابية. وهذه الأخيرة تستدعي المقارنة بين حالة الحداد و بين الأعراض السوداوية التي وصفها فرويد سنة 1917 في مقالته"الحداد و السوداوية"deuil et méloncolie و في الأخير نلاحظ مرحلة الانفصال.
إن صورة الارتباط مختلفة باختلاف البديل الأموميsubstitut maternel الذي يسمح بتخفيض آثار الانفصال.و مهما تكون العنايات من النوع الجيد إلا أنها تبقى غير كافية، فالرضيع يبقى في حاجة إلى الوجه الأمومي. كما أن الأم أيضا يصعب عليها معايشة الانفصال.
لقد استند Bowlby إلى بعض النظريات من أجل شرح الحصرالمرتبط بالانفصال، حيث صنف خمسة أنماط نظرية و التي تعارض ذلك بما أنها لا تعتبر الانفصال كسبب مباشر للحصر. و في وجهة النظر هذه، يوضح Bowlby أنه نستطيع أن نعارض فكرة أن الانفصال يثير الحزن. لكن يمكن للحصرأن يظهر كما لو أنه ذو أصل أكثر تعقيدا بنفس طريقة الحداد في الحالات العادية و السوداوية المرضية.
انطلاقا من نظرية فرويد و ميلاني كلاين، نجد أن الرغبة التي تستدعي الطفل أن يكون بالقرب من أمه هي التبعية التامة لها، و هي وحدها لا يمكنها أن تستجيب لهذه الرغبات. فالإشباع على أحسن وجه ممكن و كذا الأمن لا يكفي للإقصاء النهائي لردود الأفعال السلبية تجاه الانفصال عن الأم. هذا يعني أن الارتباط يلعب دور هام في هذه الحالة.
و من أجل شرح الارتباط و حصرالانفصال، استعاد Bowlby الرأي التطوري الدارويني(le de vue évolutionniste darwinien). و من أجل شرح المخاوف؛ كالخوف من الظلام و الحيوانات و الفوضى و الوحدة... فهذه الوضعيات ليس خطيرة في حد ذاتها لكنها مرتبطة بطريقة غير مباشرة بوضعيات خطر. ولهذا يظهر الحصرإذا ترك الطفل وحيدا أو في الظلام أو عند رِِؤية الحيوانات... أي عند توقع الخطر، و ينتهي عند انتهاء هذه الحالة، إي عند انتهاء الخطر. فالأطفال يخافون من الظلام، الوحدة.. و حضور الأم أو مجرد الاتصال بها كاف لسيطرة كليا على هذه المخاوف. و هذا ما يوضح أن الخوف و الحصرهنا مصدره الانفصال عن الأم.
2-2 حصرالانفصال و فقدان الموضوع حسب النظريات النفس دينامية:
2-2-1 مكانة حصرالانفصال و فقدان الموضوع في النظرية الفرويدية:
إن الإسهامات النظرية الكبرى لفرويد في هذا الموضوع محتواة في منشورين إثنين: "الحداد و الميلانخوليا " deuil et méloncolie و " الكف، العرض و الحصر inhibition, symptôme et angoisse". و قد اعتمد فرويد في هذا الموضوع خصوصا على علم النفس المرضي العام و الملاحظة في الحياة اليومية، دون الرجوع إلى خبراته التحليلية مع عامليه. ففي 1905 لاحظ مثلا أن الطفل يخاف من الظلام كلنا ترك وحيدا، و في 1920 أعطى تحليلات عامة حول الطفل الذي يلعب بالبكرة la bobine بهدف إعادة تمثيل غياب و ظهور أمه الغائبة...إلخ.
ففي مقاله الحداد و الميلانخوليا، التي ظهرت سنة 1917، أشار فرويد إلى التشابه الغريب الموجود بين حالة الحداد و أعراض الاكتئاب الميلانخولي. فالحداد عادة هو رد فعل تجاه فقدان شخص محبوب، و الميلانخوليا تتميز باكتئاب عميق و مؤلم تؤدي إلى توقيف الاهتمام بالعالم الخارجي و فقدان القدرة على المحبة، و الاختلاف الموجود بينهما هو أن فقدان الموضوع في الميلانخوليا يظهر كهوام لا شعوري عكس ما هو موجود في الحداد، و الاختلاف الآخر هو فقدان تقدير الذات الذي نلاحظه في الميلانخوليا و لا نلاحظه في الحداد.
كما أن فرويد وصف في هذه المقالة، ميكانيزم دفاعي أساسي ضد فقدان الموضوع، و باعتبارنا أن استدخال الموضوع المفقود هو جزء منشطر من الأنا أمر بديهي؛ فهو السبب الأصلي لحدوث الاكتئاب، و هذا ما ذهبت إليه ميلاني كلاين عندما تكلمت عن الوضعية الاكتئابية و فكرة فقدان الموضوع.
و في سنة 1926 في كتابه"الكف، العرض و الحصر" أرجع فرويد مصدر الحصرإلى الخوف من الفراق و فقدان الموضوع، و فيها اقترح نموذج نظري يسمح بتعريف الحصرو تبيان أصله. فالحصر إذا يظهر كرد فعل للأنا في حالة الخطر. لكن يبقى المشكل المطروح هو تحديد هذا الخطر. و حسب فرويد، لا يمكن أن يتعلق بخطر على الحياة، و الذي سيعطي مكان لحصرالموت؛ لأنه لا يوجد في معاش الفرد تجربة الموت، لكن في اللاشعور ليس هناك أي شيء يعطي مضمون لتصورنا بتدمير الحياة. و حصر الموت هنا يجب أن يكون مدرك مقارنة بحصر الخصاء؛ إذا الحصر يعاش كرد فعل تجاه خطر الإخصاء، و الذي يظهر كرد فعل للفقدان و الانفصال.
2-2-1-1 نوع المخاطر في الحياة:
إن المخاطر قابلة أن تطلق حالة صدمات في مختلف أطوار الحياة وحسب فرويد فهي عادة راجعة إلى الخوف من الفراق وفقدان الموضوع المحبوب،أو إلى فقدان الحب من طرف الموضوع، وهذا الفقدان يمكن أن يؤدي إلى اتجاهات مختلفة كتراكم الرغبات الغير مشبعة وكذا حالة من الإكتئاب، وهذه الأخطار متتالية حسب فرويد وهي الولادة، فقدان الموضوع، فقدان القضيب ، فقدان حب الموضوع ، فقدان حب الأنا الأعلى.
2-2-1-1-1 خطر الولادة :
بالنسبة لفرويد مسار الولادة هي الحالة الخطيرة الأولى، والتقلبات الإقتصادية الناتجة تصبح نمط أولى لحالة الحصر. والحالة يعيشها المولود الجديد و الرضيع على شكل آلية من حالة الإشباع ، ولتحديد هذا الخطر استعاد فرويد نظرية Otto Rank حول صدمة الميلاد وإعتمد خصوصا على كتابه « le Trauma de la nissance et sa significativité pour la psychanalyse »
الذي يؤكد فيه على أن عملية الميلاد هي بالضبط أولى إنفصال عن الأم . وهذه الأخيرة لم تدرك كموضوع بسبب نرجسية الجنين. فالولادة يمكن أن نعتبرها إخصاء من الأم وفق معادلة طفل= قضيب
2-2-1-1-2 فقدان الأم كموضوع:
يستمر فقدان الأم كموضوع إلى مرحلة متأخرة جدا، وحسب فرويد فإن حالات الإشباع المتكررة هي التي خلقت هذا الموضوع. فالرضيع عندما يدرك الأم كموضوع لا يستطيع أن يفرق بين الغياب المؤقت والفقدان المستمر لأمه.
ولهذا نجده يتصرف في اللحظة التي يفقد فيها رؤية أمه كما لو أنه لا يراها ثانية، وهنا يصف فرويد الحصرالمتعاقب الذي يظهر كخطر فقدان الموضوع الأمومي والطفل تدريجيا ينتقل من مرحلة الخوف من فقدان الموضوع إلى الخوف من فقدان حب الموضوع.
2-2-1-1-3 قلق الخصاء كخطر فقدان الموضوع:
الخطر الأتي يتمثل في الخوف من الخصاء الذي يعود إلى المرحلة القضيبية. فهو يعاش كخطر فقدان الموضوع والموضوع هنا يكون القضيب. ولقد وضح فرويد أن حصر الخصاء هو أيضا حصرإنفصال حيث يخضع لنفس الشروط المحددة لفقدان الموضوع.
2-2-1-1-4 خطر فقدان حب الأنا الأعلى:
مع نمو وتقدم الطفل يصبح حصرالخصاء من تهديد أبوي مستدخل بإلحاح ذاتي شخصي، والخطر يصبح أيضا غير محدد أكثر. وهنا يتطور حصرالخصاء إلى حصرأخلاقي ويسبب خوف فقدان الأنا الأعلى ويعطي بدلك الأنا أهمية وقيمة للخطر، ويستجيب عندها بإثارة الحصر.
2-2-2 مكانة الحصروالإنفصال في النظرية الكلاينية:
إن إرتباط الظواهر بحصرالانفصال أخذ مكانة هامة في النظرية الكلاينية. سواء كان ذلك في الجانب النظري أو التطبيقي،وبفضل تجاربها في التحليل مع الأطفال الصغار، وكذا التحليل الذاتي لحدادها الخاص. حيث اكتشفت ميلاني كلاين الجذور الواضحة للإكتئاب في مرحلة الطفولة، ومنحت للحداد الدور المركزي ليس في علم النفس المرضي بل حتى في النمو العادي.
ولعرض مكانة حصرالانفصال وفقدان الموضوع عند ميلاني كلاي لابد من العودة إلى أفكارها الأساسية التي تحملها، إنطلاقا من عقدة الأوديب المبكرة، الوضعية شبه العظامية و الإكتئابية.حسب رأيها فإن حصرالانفصال وفقدان الموضوع يسجل ضمن الإطار التطوري من العلاقات الموضوعية ، ولا يوجد هناك ما يعرف باللاتمايز أنا-موضوع L’indifférenciation Moi -objet ،عكس ما جاء به فرويد في فكرة النرجسية الأولية.لأن الأنا والموضوع يدركان منذ الولادة *. والحصر هو رد فعل مباشر للعمل الداخلي لنزوات الموت وهو يأخذ شكلين إثنين حسب ميلاني كلاين وهما:
حصرالاضطهاد الذي ينتمي للوضعية الشبه عظامية.
الحصر الإكتئابي الذي ينتمي إلى الوضعية الإكتئابية.
إن العلاقات الموضوعية توجد منذ بداية الحياة. والموضوع الأول هو ثدي الأم، والذي ينشطر بالنسبة للطفل إلى ثدي جيد مشبع وثدي سيء محبط، وهذا الانشطار يصل إلى حد الانفصال الحب والكره ، فالكره وحصر الاضطهاد مرتبطان بالثدي المحبط السيئ، أما الحب والأمن مرتبطان المشبع الجيد. وفي الواقع الموضوع الجيد هو ثدي الأم المغذي والذي يشبع حاجات الرضيع ويكون بالطبع محبوبا، والثدي السيئ غائب ومكروه لأنه يمثل خطر الموت بالنسبة للطفل.
إن المحتوى الأولي للحصر هو إحساس الطفل بالخطر لعدم إشباع حاجاته بسبب غياب الأم، وهو ينشأ من الخطر الذي يهدد العضوية نزوات الموت.
إذن القلق في الأصل هو الخوف من الموت * .فحسب ميلاني كلاين يوجد في اللاشعور خوف من فناء الحياة؛ بما أن نزوة الموت موجودة حقا، فهذا دليل قاطع على أنه هناك خوف من فناء الحياة.وهي تنشط على مدى الزمني للفرد، وهذا ما يظهر في الوضعية الشبه فصامية.
أما في الوضعية الإكتئابية القلق يظهر على شكل تجاذب وجداني، فالرضيع يخاف من نزواته التدميرية أن تدمر الموضوع الذي يحبه والذي يخضع له داخليا كما أنه يكتشف تبعيته الكاملة له،ورغبته الشديدة في امتلاكه والحفاظ عليه وحمايته من كل شيء يدمره. فإذا كان الرضيع مندمج جيدا معه يستطيع أن يتذكر حبه للموضوع الجيد وحفظه عندما يكرهه. وإلاماهات المحبوبة، حيث يستطيع الرضيع أن يتقمصها.أما فقدانها فيؤدي إلى ظهور مجموعة من الأعراض والأحاسيس ، كالإحساس بالفقدان ، بالحزن،بالحنين للفقدان الجيد، بالذنب الذي يأتي للخطر الذي يهدد الموضوع الداخلي بإعتباره يعود إلى نزواته وهواما ته الشخصية. وحسب ميلاني كلاين فإن هذا يعتبر إشارة واضحة لبداية الحصرالإكتئابي، حيث يوجد هناك تذبذب مستمر بين حصرالاضطهاد لأن الكره هو الأقوى والحصر الإكتئابي لأن الحب أقوى من الكره.
2-2-2-1 الدفاعات الهوسية والنرجسية تجاه حصرالانفصال وفقدان الموضوع:
إن مكانة حصرالانفصال وفقدان الموضوع في النظرية الكلاينية، عرضت من طرف Jean Michel Quinodoz في كتابه La solitude apprivoisée سنة 1991.حيث بين بالتحديد دور الدفاعات الهوسية التي تسمح بإنكار الواقع النفسي للألم الإكتئابي .
إن الموضوع يكون مراقب بطريقة جد قوية على نمط منتصر ومهان.بالطريقة التي لا يسبب فيها فقدان الموضوع المعاناة والإحساس بالذنب، مع الانطواء نحو الموضوع الداخلي المثالي في الوقت نفسه، والذي يستطيع أيضا أن يكون كدفاع ضد حصرالانفصال و فقدان الموضوع، كما تلعب النرجسية هي الأخرى دور مهم كدفاع ضد حصرالانفصال و ضد تطور الموضوع كمنفصل و مختلف، حيث أن العلاقات النرجسية مؤسسة نحو تماهي إسقاطي l’indentification projectif، فالأجزاء الجيدة و/أو السيئة لفرد تكون مسقطة في الموضوع الذي يمثل جزءا في الفرد، وهذا النمط من العلاقات يسمح بمراقبة الموضوع له سمات وسواسية.
و في الأخير فإن إدراك الموضوع ـ كونه مختلف و مجنسsexué ـ تختلف الرغبة ولغيرة للمشهد البدائي للأم، كونها تدرك كمنفصل و كثنائية مع الأب الذي يسمح الوضعية الاكتئابية.
2-2-3 مكانة حصرالانفصال و فقدان الموضوع في نظرية مارغريت ماهلر:
وصف مارغريت ماهلر عدة مراحل لنمو الطفل، بداية من المرحلة الإجترارية العادية la phase autistique normale، ففي بداية الحياة يتعلق الأمر بحالة ضمول مشغولة بصفة أساسية من طرف النوم، حيث يكون الرضيع في حالة اللاتمايزl’indifférenciation مع العالم الخارجي، و بعد ذلك تأتي المرحلة الرمزية العادية la phase smbiotique normale و التي تكون فيها الأم مندمجة داخل علاقة ثنائية قوية كموضوع جزئي مندمج، إلا أنه لا يوجد تميز حقيقي بين الذات و الموضوع، و في الأخير بعد أن تسمح نمو بعض وظائف الطفل باكتساب القدرة على التحرر، و الانجذاب نحو المواضيع الخارجية ذات العلاقة الرمزية، تصل إلى مرحلة سيرورة الانفصال التفردية séparation – individuation، و التي يمكن اعتبارها كولادة بسيكولوجية و هي طبعا مختلفة عن الولادة البيولوجية.
تمر الولادة البسيكولوجية بدورها عبر نمو الأحاسيس ذات الاستقبال الخارجي الذي يسمح باستثمار ليبيداوي للمحيط الخارجي. ثم عبر الانتقال و التعلم و التي تعتبر انفصالات عاطفية مع الأم، و تجارب الانفصال هذه تعاش بأسلوب ابتهاجي و متعلق في نفس الوقت. حيث تستثمر الأم تدريجيا كموضوع منفصل، و الطفل يصل إلى مرحلة الرمزية، ليصل بعدها إلى ديمومة الموضوع و اللغة عند نهاية سيرورة الانفصال ـ التفردية séparation – individuation.
هذه المراحل التطورية التي وصفتها ماهلر توافق قبل كل شيء الشروط النفس داخلية اللاسلوكية، و الانفصال هنا يوافق النمو خارج الاندماج المزيجي la fusion symbiotique، حيث يكون ذو قيمة نفس ـ داخلية تسمح بتمييزه عن الأم، و كذا إدراك الحدود بين الذات و الموضوع، و الابتعاد و الانفصال عنه.
إن التمثيلات النفس ـ داخلية للذات مختلفة عن التمثيلات الموضوعية مما يؤدي إلى تطور التفردية و هذا بفضل تطور الوظائف المستقلة، كالذاكرة، الإدراك و القدرات المعرفية. و لهذا فإن التفرد نية توافق الشعور بالهوية الشخصية و بخصائصها الفردية. إن سيرورة الانفصال التفردية séparation – individuation تستلزم الإحساس بأن نكون منفصلين و في نفس الوقت على علاقة مع إلام. أي أن نكون على استقلالية تامة، و هذه الاستقلالية تسمح بنمو الطفل من جهة و توفير حنان الأم من جهة أخرى. و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السيرورة يمكن تشغيلها أم إعادة تشغيلها عبر كامل مراحل العمر، خاصة عند بداية كل مرحلة جديدة حتى أنه هناك العديد من الباحثين من اعتبر سيرورة الانفصال ـ التفردية الخيط الذي يقود إلى المراهقة أمثال: P.Blos- J.F.Materscon- F.Ladam PH.J.Cammet- إلا أن ماهلر تحذر من الخلط من استعمال هذا المصطلح، فالسيرورة التي وصفتها تسمح بنيوية النفسية حتى في المراهقة هي عبارة عن بنية للنفسية.
2-2-5-4 انعكاسات حصرالانفصال و فقدان الموضوع في نظرية أنا فرويد:
رغم أن أنا فرويد كانت من أهم المحللين الأوائل الذين قاموا بملاحظة الطفل غي حالة الانفصال، إلا أن اهتمامها بهذا المشكل جاء متأخرا نوعا ما، ففي مؤلفاتها التي اهتمت بمعالجة الحصرمثل: Le traitement psychanalytique des enfants1927
أو Le moi et les mécanismes de défense 1936
لم نجد أي إشارة لحصرالانفصال و فقدان الموضوع، كما أنه لم تورد أي تلميح لنظرية فرويد الأخيرة التي قدمها حول الحصر1926.
كان اهتمام أنا فرويد بهذا الموضوع خلال الحرب العالمية الثانية، أين بدأت ملاحظاتها المنفصلين عن أبائهم بسبب الحرب. و فيها قدمت ملاحظات دقيقة حول الاكتئاب الطفولي la détresse enfantile قامت بوصفه وصفا جيدا. إلا أنها لم تربطه بشكل آلي بالقلق بصفة عامة و لا بقلق الانفصال و فقدان الموضوع بصفة خاصة. و في سنة 1965 و بالضبط في كتاب le normal et pathologique chez L enfant أثارت أنا فرويد مشكلة حصرالانفصال و فقدان الموضوع عند الطفل على الصعيدين الإكلينيكي و النظري، و فيه قدمت الأشكال المتعددة التي يأخذها الحصر خلال السنين الأولى؛ و من بين هذه الأشكال حصرالانفصال، و تقول أن كل شكل من أشكال الحصرهو خاصية مرتبطة بمرحلة خاصة من نمو العلاقة الموضوعية. ويمكن تلخيص هذه المراحل على الشكل التالي:
* المرحلة الأولى: اعتبرتها أنا فرويد مزيجية* و هي مرحلة الولادة البيولوجية في الثنائية أم/طفل، و يشكل حالة نرجسية غير متمايزة. و لا يوجد خلالها أي موضوع.
* أما المرحلة الثانية: فهي تظهر العلاقة مع الموضوع بإشباع الرغبات النفسية، و كذا العلاقة الاتكالية التي يوجد عليها الطفل.
* المرحلة الثالثة :هي مرحلة العلاقات السادية ـ الشرجية، و فيها يسعى الطفل إلى السيطرة و مراقبة الموضوع.
* المرحلة الرابعة: و هي مرحلة ثبات الموضوع، فيها يحدث اكتساب نوع من الاستقرار الإيجابي للموضوع المستدخل، بعيدا عن حالات الإشباع و اللإشباع.
*المرحلة الخامسة : هي المرحلة القضيبية: و فيها يكون اهتمام الطفل مركز حول الموضوع.
ومن خلال هذه المراحل نلاحظ أن الانفصال يعرف انعكاسات مختلفة تتبع المرحلة التي ظهرت فيها، فحصر الانفصال يظهر في المرحلة الأولى و ليتوافق مع حصرالانفصال الذي قدمه بولبي . و خلال المراحل القادمة، تظهر أشكال أخرى من حصرالانفصال؛ ففي المرحلة الثانية يظهر الاكتئاب الإتكالي كما قدمه سبتز سنة 1946. في حين مرحلة ثبات الموضوع، أي المرحلة الرابعة، يميزها حصرالخوف من فقدان حب الموضوع، و هذا ما ذهب إليه فرويد عندما تكلم عن أنواع مخاطر الحياة. وأخيرا، فإن التثبيت المستمر في المرحلة المزجية يؤدي إلى حصرالانفصال بشذوذ قوي خلال السنوات القادمة.
من خلال عرضنا لهذا المقال و النظريات المفسرة لحصرالإنفصال اتضح لنا أن هذا الأخير يعتبر أصعب تجربة نفسية يمر عليها الطفل خلال مراحل طفولته، يمكن أن تؤدي به إلى اضطرابات عديدة تؤثر حتما في حياة المستقبلية....
1-1-3 أهم النظريات المفسرة الحصر: اختلفت آراء العلماء حول تفسير الحصركل من زاويته الخاصة، بحيث سعى كل واحد منهم إلى تأكيد موقفه وإعطاء براهين على ذلك. انطلاقا من آراء فرويد الأولى ثم آراءه الثانية، بعد تعديل الآراء الأولى دخولا بعدد كبير من النظريات نحاول أن نذكر البعض منها.
1-1-3-1 نظرية فرويد الأولى في الحصر: لم تظهر الصياغة النهائية لهذا النظرية إلا في سنة 1926 وبالتحديد في كتاب "inhbistion, symptome et angoisse" الكف، العرض والحصر" أين أرجع فرويد الحصرإلى الخوف من الفراق وفقدان الموضوع حيث استطاع أن يصل إلى مفهوم مؤقت وهو أن الكبت يولد الحصر، فعندما لا تشبع الرغبة الجنسية، تكبت وبالتالي تولد ابتدءا من لحظة عدم إشباع النزوة".
وباعتبار حالة الطفل لاحظ أن الحصرفي الأصل شعور ناتج عن غياب الشخص الحبوب، فالطفل ينفعل عند فقدانه لأمه الشيء الذي ينتج الحصرالمصاحب للولادة، والذي هو حصر الانفصال عن الأم، ويفسر فرويد هذا بأن الطفل في هذه الحالة يشعر بشوق شديد نحو أمه، وعدم إشباع هذا الشوق يتحول إلى الحصر.
وأخيرا ينتهي فرويد إلى أن الحصرينتج عن كبت رغبة جنسية أو إحباطها ومنعها من الإشباع، وحينما تمنع الرغبة الجنسية من الإشباع تتحول على الحصر، ويتم هذا التحول بطريقة فيزيولوجية بحتة، وهذا ما أدى إلى إبعاد موضوع الحصرعن نطاق التحليل النفسي لمدة من الزمن.
1-1-3-2 نظرية فرويد الثانية في الحصر: عاد فرويد مرة أخرى إلى دراسة الحصر دراسة تفصيلية دقيقة وبحث عن العلاقة الموجودة بين الحصرونشوء الأعراض العصابية. حيث توصل فرويد إلى تقديم صيغة جديدة أكثر إقناعا في نظرية الحصر، أين أبرز الحصركوظيفة من وظائف الأنا، وهو الذي ينتج الكتب، أي أن الحصرهنا يستعد لمجابهتها. وشعور الحصرالذي يحس به الفرد حينما يتوقع الخطر هو عبارة عن تكرار لشعور الحصرالذي هو من جهة توقع حدوث خطر أو صدمة في المستقبل، ومن جهة أخرى تكرار الحالة خطر أو حالة صدمة سابقة في صورة محققة.
لقد اهتم فرويد بالبحث في حالة الخطر الأولى التي يمر بها والتي يمكن أن تثير الحصر لأول مرة، فتوصل إلى أن حصرالطفل الصغير كرد فعل عن غياب الأم وفقدان الموضوع، يمكن مقارنته أيضا بالحصرالمصاحب للولادة والذي سببه هو الانفصال عن الأم، وكذا بحصرالخطأ الذي مصدره الخوف من فقدان موضوع مهم وهو القضيب.
وعملية الميلاد هي الخطر الأول الذي يتعرض له الفرد، والحصر الأول الذي يصاحب هذا الخطر هو النموذج الأصلي لكل حالات الحصرالتالية ولهذا يقول فرويد " ... نحن ميالون على افتراض وجود عامل تاريخي يجمع بين إحساسات الحصروبين تنبيهاته العصبية بدقة، أي وجود عامل تاريخي يجمع بين إحساسات الحصر وبين تنبيهاته العصبية بدقة، أي أننا نفترض أن حالة الحصرتنشأ عن خبرة ما تتضمن الشروط الضرورية يمثل هذه الزيادة في التنبيه ويمثل هذا التفريغ في مسالك معينة، وأن الكدر/لالذة الحصر يستمد سمته الخاصة في هذه الظروف. والميلاد بالنسبة إلى الإنسان خبرة نموذجية من هذا النوع، ولذلك يمثل إلى اعتبار حالات الحصركأنها ناشئة من صدمة الميلاد".
ولو نمعن النظر في مقولة فرويد لوجدنا أنه هناك تقارب من وجهة نظر اقتصادية بين عملية الميلاد وغياب الأم، ففي الحالتين هناك تصاعد في التوتر تحت تأثير فيزيولوجي خارجي عند الميلاد، وبالرجوع عند الانفصال عن الأم فيما بعد، وهذا الانفصال يولد الحصرحتى وإن لم يكن هناك إحساس بالجوع وهذا ما يسمح بالمرور من حصرإلى لا إرادي مرتبط بحالة الخطر، إلى حصرإرادي كنتيجة للإشارة بالخطر. ولهذا يكون الحصر عنصر من وظائف الأنا.
إذن فقدان الموضوع أو مجرد احتمال الفقدان يحدد الحصر. وبهذا يمكن أيضا تفسير حصر الخطأ بما أن امتلاك القضيب يضمن إمكانية الارتباط بالأم وفقدانه يعني فقدان الأم.
1-1-3-3 نظرية أتو رانك: يذهب رانك إلى الإنسان يشعر في جميع مراحل نمو شخصيته بخبرات متتالية من الانفصال، وهو يعتبر الميلاد كأول وأهم خبرة للانفصال تمر بالإنسان وتسبب له صدمة مؤلمة، وتثير فيه حصرشديد. وقد سمي رانك هذا الحصر بالحصر الأولي، ويستمر مع الإنسان فيما بعد حلول حياته، ابتداء من لحظة الانفصال فيما بعد من أي نوع كان مسببا للحصر، فالفطام يثير الحصرلأنه يتضمن الانفصال عن الأم، والذهاب إلى المدرسة يثير الحصرلأنه يتضمن الانفصال عن الأم، والزواج يثير الحصر لأنه يتضمن الانفصال عن حياة الوحدة، إذن الحصرفي رأي اتورانك هو الخوف الذي تتضمنه هذه الانفصالات المختلفة.
والحصر الأولي يتخذ صورتين تستمر مع الفرد في جميع مراحل حياته وهما خوف الحياة وخوف الموت، فخوف الحياة هو حصرمن التقدم والاستقلال الفردي ويظهر هذا الحصر عند احتمال حدوث أي نشاط ذاتي للفرد، أو عند ما يريد الفرد أن يكون علاقات جديدة مع الناس....إلخ، والحصر هنا يظهر لأن هذه الإمكانات تهدد الفرد بالانفصال عن علاقاته وأوضاعه السابقة.
أما خوف الموت فهو عكس خوف الحياة، فهو حصرمن التأخر وفقدان كل فرد يشعر بهذين الحصرين وهو دائم التردد بينهما. والعصابي هو الذي لا يستطيع أن يحفظ التوازن بين هذين الحصرين.
1-1-3-4 نظرية كارين هورني: تتفق كارن هورني مع فرويد في تعريف كل من الحصر والخوف بأنه رد فعل انفعالي للخطر .
لقد اهتمت هورني بالدوافع العدوانية ورأت في شدة هذه الدوافع أهم مصدر للخطر والذي بدوره يثير الحصريتمثل في خوف الفرد من توجيه هذا العدوان إلى الأشخاص الذين لهم مكانة عنده.
لن توجيه العدوان إليهم سيؤدي إلى فقدان جبهم وعطفهم وإلى قطع علاقته بهم، وهو أمر لا يستطيع الفرد احتماله ولذلك يكتب الطفل عادة دوافعه العدوانية، بما أن الشعور العدواني خاصة نحو الأم يولد الحصر.
وسمت هورني الحصرالذي يسبب العصاب بالحصر الأساسي، وذلك من ناحيتين : فأولا لأنه أساس العصاب ، وثانيا لأنه ينشا في المرحلة الأولى من الحياة نتيجة اضطراب العلاقة بين الطفل ووالديه وهذا الاضطراب هو الذي يسبب للطفل الحرمان من الحب والعطف الحقيقيين، والطفل الذي لا يشعر بالحب والاحترام في سنواته الأولى يميل إلى إظهار الكره والعداء نحو والديه ونحو الأشخاص الآخرين. وبما أن الطفل يعتمد على والديه في كل شيء فهو لا يستطيع إظهار هذا العدوان وهذا ما يؤدي إلى كذبت الشعور العدواني، ثم إلى الحصر، إذن هناك تفاعل متبادل بين العدوان و الحصرفكل منهما يقوي ويساعد الآخر.
1-2 حصرالانفصال
1-2-1 تعريف الانفصال
لغويا: الانفصال من الفعل انفصل وهو ضد اتصل.
اصطلاحا: الانفصال هو نزع جزء من الكل المكون له، أو انفصاله عنه مما يغير في بنية كل منها.
ويعرفه Norbert Sillamy في قاموسه على انه إبعاد الأفراد عن الكائنات أو الأشياء.
1-2-2 تعريف الحصر بالانفصال
حصرالانفصال يتمثل في حالة عدم الارتياح والاضطراب والهم الذي يظهر نتيجة للخوف المستمر من فقدان الأشخاص المحبوبين والمرغوبين حيث يقول:" الحصرعند الأطفال ليس أصل شيء آخر غير عاطفة فقدان الشخص المحبوب".
أما المراجعة الرابعة للدليل التشخيصي الإحصائي للأمراض العقلية DSM4 فقد عرفت حصرالانفصال على النحو التالي:" حصرالانفصال هو حصرشديد بسبب الانفصال عن الأفراد الذين يتعلق بهم الطفل أو بسبب الانفصال عن البيت" (DSM4, 2004, p523 ) وهذا يعني أن حصرالانفصال حسب هذا الدليل –DSM4- هو الخوف من الوحدة بأسلوب متزايد أو الخوف من الابتعاد عن الشخص الذي يتعلق به تعلقا شديدا في البيت أو في مكان آخر.
1-2-3 التعريف الإجرائي لحصر الانفصال : يمكن تعريف حصرالانفصال إجرائيا على النحو التالي:
حصرالانفصال هو الحصرالذي يصاب به المرء لدى انفصاله عن شخص يعتقد بضرورة وجوده في حياته، أو هو الحصرالشديد المرتبط بحالة عدم الارتياح بسبب الانفصال عن الأفراد الضروريين في حياة الطفل.
1-2-4 أعراض حصرالانفصال: تظهر عدة أعراض يمكن تشخيصها من حصرالانفصال حيث أورد DSM IV المعاير التشخيصية للاضطراب حصرالانفصال على النحو التالي:
* النمو الغير المناسب، وقلق متزايد متصل بالانفصال عن البيت أو عن من يتعلق بهم الطفل تعلقا شديدا.
* الألم المتكرر الشديد عند توقع الانفصال عن البيت أو من يتعلق بهم تعلقا شديدا.
* قلق دائم و متكرر لفقدان شخص عزيز أو توقع حدوث له ضرر أو كارثة.
* قلق دائم و متزايد جراء حدث مكروه سيؤدي إلى الانفصال عن شخص عزيز.
* الإصرار على الرفض و المقاومة و الكراهية للذهاب للمدرسة أو إلى أي مكان آخر بسبب الخوف من الانفصال عن الأم.
* الإحجام المستمر، أو رفض الذهاب إلى النوم دون أن يكون بجوار من يتعلق بهم تعلقا شديدا، و هذا ما يظهر في رفض النوم بعيدا عن البيت.
*الكوابيس المزعجة المتكررة و التي تأخذ طابع الصداع، ألم في المعدة، الغثيان، القيء و هذا عند حدوث أو توقع الانفصال من الأشخاص الذين يتعلق بهم أو الذين تكون لديهم منزلة كبيرة في نفسية الطفل.
1-2-5 الأسباب المؤدية لحصر الانفصال:
1-2-5-1 صدمة الميلاد: تعتبر عملية الميلاد كأول صدمة نفسية عنيفة، وأول حالة خطر يعيشها الطفل .إذ أن ما تحدثه من تصدع اقتصادي يصبح النموذج الأصلي للاستجابة القلق. حيث أنها ترمز إلى الانفصال عن الأم بمعنى بيولوجي في أول الأمر، ثم إلى فقدان الموضوع فيما بعد و بطريقة غير مباشرة.
يعتبر أوتورانك أول من تكلم عن صدمة الميلاد حيث يعتبرها كأول و أهم خبرة للانفصال يمر بها الإنسان و تسبب له صدمة مؤلمة، و تثير فيه قلقا شديدا. و قد سمى رانك الحصرالذي تثيره صدمة الميلاد بالحصر الأولي.
وصدمة الميلاد بمعناها الرمزي تعني الانفصال عن الأم، و بالتالي يصبح كل انفصال فيما بعد مسببا لحصر، فالفطام يثير الحصربما أنه يتضمن الانفصال عن ثدي الأم، و المدرسة تثير الحصر بما أنها تتضمن أيضا الانفصال عن الأم... إلخ. و كل هذه المعاناة تترك دلالات هامة على النمو النفسي للطفل مستقبلا.
1-2-5-2 الفطام: هو منع الثدي عن الطفل. و من الناحية النفسية الانفعالية يعني الانفصال عن ثدي الأم، و بالتالي الانفصال عن الأم، بما أن ثدي الأم تحقق إشباعات بيولوجية هامة. بحيث تصبح الأم مصدر ارتياح الطفل باعتبارها العنصر الوحيد الذي يلب حاجاته الغذائية و العاطفية في نفس الوقت.
إن حرمان الطفل من ثدي الأم مبكرا يؤدي إلى اضطرابات نفسية الأمر الذي يؤثر سلبا على نموه الجسمي و العاطفي، إضافة إلى إثارات الحصر الأولي –الموصوف من طرف أوتورانك – و بالتالي الشعور بالإكتئاب، عدم الانسجام و بروز ملامح الكره والحقد و العنف لديه لاحقا و لهذا حدد الله عز و جل الفطام في حوالي عاميين حيث يقول في سورة البقرة: » و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة «. ( سورة البقرة آية 232).
1-2-5-3 غياب الولدين: إن للولدين أهمية كبيرة في تكوين العلاقات الأسرية. فعلاقة الولدين بالأبناء تؤثر و بشكل كبير في سلوكاتهم و جوانب عديدة في شخصيتهم، و الأسرة تتكون من عدة أفراد و فيها فردين يكونان أكثر تمييزا و هما الأب و الأم و لكل منهما دور خاص في تنشئة الطفل و يكون لغيابهما أثر كبير على نفسيتهم.
1-2-5-3-1 أثر غياب الوالدين: للأم الدور الكبير في عملة تنشئة الطفل و قد أكد جون بولبي Bowlby هذا حيث يقول: »إن علاقة الأم بالطفل هي بدون شك العلاقة الأكثر أهمية خلال سنوات الطفل الأولى، و أي حالة تمنع الطفل من هذه العلاقة تسمى بالحرمان الأمومي « . فالأم بوجودها تشبع كل حاجات الطفل بيولوجية كانت أم نفسية عاطفية، و غيابها المؤقت أو الدائم يعني عدم وجودها و بالتالي عدم إشباع الحاجات و هذا ما يدفع بالطفل إلى الإحساس بقلق حاد سببه انفصاله عن أمه.
و الكثير من الدراسات أكدت أن تأثير انفصال الطفل عن أمه يختلف باختلاف سن الطفل. فغياب الأم في الأيام الأولى من حياة الطفل – خاصة إذا وجد الطفل بديل أمومي يعطيه العناية و الرعاية – يكون اخف مقارنة بغيابها في السن الثانية و ما بعدها، فالطفل هنا يشعر بأن شيئ من كيانه قد فقد و لا يمكن تعوضه، وهذا ما يجعله يعيش في حالة توتر دائمة.
1-2-5-3-2 أثر غياب الأب : عندما نتكلم عن الأم و دورها في حياة الطفل لا يعني أننا قد أهملنا دور الأب في تكون شخصية الطفل خاصة إذا كان الاتصال بينهما منظم و متكرر منذ الولادة. فالأب يمثل بالنسبة للطفل السلطة الضابطة أو المثل الأعلى يجب الإقتداء به، و كلما كانت العلاقة أب/طفل أمينة يملؤها الحب والحنان والعطف كلما نشأ الطفل في صحة جيدة و بنية جسمية قوية. أما في حالة ما تدهورت هذه العلاقة فإنها تدفع بالطفل إلى الشعور بالكراهية لأبيه و الغيرة من أخوانه و كرههم حيث تسوء بذلك حالة الطفل النفسية، مما يجعله يعيش في تجاذب وجداني يسبب له قلق حاد .
1-2-5-4 المدرسة:تعتبر المدرسة كأهم مرحلة يدخل إليها الطفل حيث أن الطفل ينفصل و لأول مرة عن محيطه العائلي و يلتحق بمحيط جديد مملوء بالمخاطر و المخاوف في نظر الطفل، و هذا ما يدفع بالطفل إلى رفض المدرسة و إبداء قلق شديد عندما يجبرون على الذهاب إليها.
و يلاحظ أن الأطفال الصغار الذين ينفرون من الذهاب إلى المدرسة عادة هم أطفال ينالون رعاية زائدة من أمهاتهم، و هذا دليل على أن الطفل لم يخف من المدرسة في حد ذاتها بل يخاف من فقدان أمه و لم يقوى بعد على الانفصال عليها. هذا ما ذهبت إليه الدراسات الحديثة التي حاولت أن تدرس موضوع خواف المدرسة La phobie scolaire حيث أكددت أن الطفل في المراحل الأولى من حياته يخاف من المدرسة كونه يخاف من فقدان أمه. لأنه يخاف أن تحدث له و لأمه أشياء مزعجة في وقت انفصاله عنها.
1-2-5-5 أسباب أخرى: *عدم النضج الانفعالي، فالأطفال الصغار الذين لم يبلغوا درجة عالية من النضج الانفعالي، و يتعلقون تعلقا كبيرا بصورة الأمومة يتعرضون بصفة خاصة لحصر شديد بسبب الانفصال عن الأم.
*درجة الارتباط بالأم. كلما كانت درجة ارتباط الطفل بأمه عالية تكون درجة الإصابة بحصر الانفصال أقوى.
*مرور الطفل بخبرات انفصال عابرة مرتبطة بأنواع عديدة من الأسباب كولادة أخ صغير، الحالان الإستشفائية* ، النزاعات التي تحدث بين الأبوين...
1-2-6 التشخيص الفارقي لحصرالانفصال: عند تشخيص حصرالانفصال، ينبغي تمييزه عن الاضطرابات الأخرى و التي قد تكون بينها و بين حصرالانفصال علاقة أو أعراض متشابهة و من ذلك:
* القلق العادي أو المعمم: في بعض الأحيان يحس الطفل بقلق قد يكون ظاهرة عادية ، لأن القلق المعمم لا يكون مركزا على مواقف الانفصال فقط، بل على أحداث أخرى أيضا: كالخوف من الحيوانات.
* الاكتئاب: إن تشابه أعراض قلق الانفصال و الاكتئاب، يجعل تشخيصهما صعب. لذا يجب إجراء تشخيص خاص لمعايير و محكات حصرالانفصال، بما أن الأعراض تتفق في كلا الاضطرابين.
* الهلع و الخوف المرضي من الأماكن الفسيحة: خاصة إذا علمنا أن هذا الاضطراب لا يحدث قبل سن 18 سنة، و ليس بسبب حدوث الانفصال. إلا أنه في بعض الحالات تتفق أعراض هذا الاضطراب بأعراض حصرالانفصال.
* بعض الاضطرابات السلوكية: و التي تكون أسبابها أمراض أخرى غيرحصرالانفصال.
* رفض الذهاب إلى المدرسة: على أنه من الأعراض الشائعة لحصر الانفصال، لكن في بعض الأحيان يبقى بعيدا كل البعد عنه. فالأطفال الذين يعانون من اضطرابات أخرى كالمخاوف المرضية، و الاضطرابات السلوكية يبدون رفضا تاما للذهاب إلى المدرسة.
* المخاوف الحقيقية: قد يتعرض الطفل لعدوان خارج البيت أو في المدرسة، مما يجعله يرفض الخروج من البيت، وهذا ليس بسبب الخوف من الانفصال، بل يجب تقصي هذه المخاوف وصولا إلى تحديدها.
2- حصرالانفصال و فقدان الموضوع حسب المحللين:
2-1 حصرقلق الانفصال التطوري:L’angoisse de developpemental
وصف حصرالانفصال التطوري من طرف D.Bailly. و هو المعطيات المادية الإجبارية و المنتظرة في سياق النمو الخاص لكل طفل. وهذه المعطيات موجودة عالميا و تظهر عند كل الأجناس و الثقافات. هذه الظاهرة التي تخص استجابة حزن عندما يصبح الرضيع منفصل من الحضور الفيزيائي للصورة الأمومية. حيث تظهر ابتداءا من الشهر السادس و في بعض الحالات قبل ذلك، أي حتى في الشهر الثالث. و تظهر عند معظم الأطفال دون أخذ بعين الاعتبار بالفارق الجنسي. حتى و لو كانت نتائج الدراسات حول هذا الموضوع تؤكد على وجود اختلاف في شدة هذه الظاهرة.
2-1-1 حصرالانفصال التطوري حسب SPITZ بين الشهر الثالث و السادس، يبتسم الطفل لأي وجه إنساني، عائلي كان أو غير عائلي. و بين الشهر السادس و الثامن يظهر الطفل قلق بدرجات متفاوتة عند مقابلته لوجه إنساني غير مألوف. حيث يرفض الاتصال و تظهر عليه علامات القلق و الحصر، و حسب SPITZ فإن الرضيع يكتشف على أن هذا الوجه ليس بوجه أمه، و يكفي حضور الأم للتخفيف من هذه التظاهرات. و هنا تكلم SPITZ عن قلق الشهر الثامن و الذل يخص تأسيس الموضوع اللبيدي و كذا القدرة على التعرف على وجه الأم، أي القدرة على امتلاك صورة ذهنية. وقد اعتبره SPITZ كمنظم نفسي ثاني.
و في عام 1946 و صف SPITZ الاكتئاب الاتكالي dépression anaclitique عند أطفال الشهر السادس و الثامن و المنفصلين عن أمهاتهم دون وجود سند عاطفي. وعندما لا تكون العلاقة أم/طفل مشبعة داخليا و كليا، فالأمر هنا يتعلق بحالة حرمان أمومي. أين نلاحظ أولا مرحلة الرفض المصاحبة بالبكاء و التشبث بالراشد، ثم تأتي مرحلة اللامبالاة indifférence متسمة برفض الاتصال، بأرق شديد، بفقدان الشهية و بحساسية كبيرة للأمراضinfectieuse. كما يلاحظ أيضا على الطفل خلال هذه المرحلة توقف نسبي في النمو، وتتوقف هذه الاضطرابات إذا وجد الطفل ثانية الأم أو البديل الأمومي الكافي وهذا خلال الثلاثة أشهر. إما إذا استمر الانفصال أكثر من هذه المدة، تتدخل مرحلة ثالثة يلاحظ فيها: بكاء دون توقف، يظهر الطفل على هيئة جامدة غير مبالي بأحد، فقدان الوزن و التأخر الحركي الذي يظهر جليا. و بعد خمسة أشهر من الانفصال نلاحظ استجابة تدعى الاستشفاءhospitalisme، أين يبقى الطفل ممدا على ظهره، فاترpassif، ذو ملامح خالية من أي تعبير، و نسبة النمو في تناقص مستمر. و في بعض الأحيان حركات على شكل اختلاجات زائفةpseudo athétosique في الظهر، و أرجحة الرأس. إذا الاضطرابات تكون غير انعكاسية و ينتج عنها احتمال الموت.
2-1-2 حصرالانفصال التطوري حسب Bowlby:
يفرقBowlby بين الانفصال و الفقدان، حيث يرى أنه يمكن أن نتكلم عن الانفصال عندما يكزن الموضوع لا يمكن إدراكه حاليا. و الفقدان عندما يكزن غير ممكن إدراكه نهائيا. و هنا نهتم عامة بالوضعيات أو الموضوع الغير مدرك، إذ هو يمثل الانفصال أو فقدان الموضوع.
في بادئ الأمر يظهر الطفل ملاحظات خلال السنة الأولى و الرابعة و ذلك في وضعيات الانفصال عن الأم. وهذا الانفصال يستثار أولا بحزن والحصر يظهر على شكل نوبات des crises من البكاء و سلوكات تهدف في مجملها إلى الاتصال بالأم. ثم تليها انخفاض في نشاط الطفل و انخفاض في السيرورات الغذائية، و فترات النوم و التي يمكنها أن تستدعي الأعراض الاكتئابية. وهذه الأخيرة تستدعي المقارنة بين حالة الحداد و بين الأعراض السوداوية التي وصفها فرويد سنة 1917 في مقالته"الحداد و السوداوية"deuil et méloncolie و في الأخير نلاحظ مرحلة الانفصال.
إن صورة الارتباط مختلفة باختلاف البديل الأموميsubstitut maternel الذي يسمح بتخفيض آثار الانفصال.و مهما تكون العنايات من النوع الجيد إلا أنها تبقى غير كافية، فالرضيع يبقى في حاجة إلى الوجه الأمومي. كما أن الأم أيضا يصعب عليها معايشة الانفصال.
لقد استند Bowlby إلى بعض النظريات من أجل شرح الحصرالمرتبط بالانفصال، حيث صنف خمسة أنماط نظرية و التي تعارض ذلك بما أنها لا تعتبر الانفصال كسبب مباشر للحصر. و في وجهة النظر هذه، يوضح Bowlby أنه نستطيع أن نعارض فكرة أن الانفصال يثير الحزن. لكن يمكن للحصرأن يظهر كما لو أنه ذو أصل أكثر تعقيدا بنفس طريقة الحداد في الحالات العادية و السوداوية المرضية.
انطلاقا من نظرية فرويد و ميلاني كلاين، نجد أن الرغبة التي تستدعي الطفل أن يكون بالقرب من أمه هي التبعية التامة لها، و هي وحدها لا يمكنها أن تستجيب لهذه الرغبات. فالإشباع على أحسن وجه ممكن و كذا الأمن لا يكفي للإقصاء النهائي لردود الأفعال السلبية تجاه الانفصال عن الأم. هذا يعني أن الارتباط يلعب دور هام في هذه الحالة.
و من أجل شرح الارتباط و حصرالانفصال، استعاد Bowlby الرأي التطوري الدارويني(le de vue évolutionniste darwinien). و من أجل شرح المخاوف؛ كالخوف من الظلام و الحيوانات و الفوضى و الوحدة... فهذه الوضعيات ليس خطيرة في حد ذاتها لكنها مرتبطة بطريقة غير مباشرة بوضعيات خطر. ولهذا يظهر الحصرإذا ترك الطفل وحيدا أو في الظلام أو عند رِِؤية الحيوانات... أي عند توقع الخطر، و ينتهي عند انتهاء هذه الحالة، إي عند انتهاء الخطر. فالأطفال يخافون من الظلام، الوحدة.. و حضور الأم أو مجرد الاتصال بها كاف لسيطرة كليا على هذه المخاوف. و هذا ما يوضح أن الخوف و الحصرهنا مصدره الانفصال عن الأم.
2-2 حصرالانفصال و فقدان الموضوع حسب النظريات النفس دينامية:
2-2-1 مكانة حصرالانفصال و فقدان الموضوع في النظرية الفرويدية:
إن الإسهامات النظرية الكبرى لفرويد في هذا الموضوع محتواة في منشورين إثنين: "الحداد و الميلانخوليا " deuil et méloncolie و " الكف، العرض و الحصر inhibition, symptôme et angoisse". و قد اعتمد فرويد في هذا الموضوع خصوصا على علم النفس المرضي العام و الملاحظة في الحياة اليومية، دون الرجوع إلى خبراته التحليلية مع عامليه. ففي 1905 لاحظ مثلا أن الطفل يخاف من الظلام كلنا ترك وحيدا، و في 1920 أعطى تحليلات عامة حول الطفل الذي يلعب بالبكرة la bobine بهدف إعادة تمثيل غياب و ظهور أمه الغائبة...إلخ.
ففي مقاله الحداد و الميلانخوليا، التي ظهرت سنة 1917، أشار فرويد إلى التشابه الغريب الموجود بين حالة الحداد و أعراض الاكتئاب الميلانخولي. فالحداد عادة هو رد فعل تجاه فقدان شخص محبوب، و الميلانخوليا تتميز باكتئاب عميق و مؤلم تؤدي إلى توقيف الاهتمام بالعالم الخارجي و فقدان القدرة على المحبة، و الاختلاف الموجود بينهما هو أن فقدان الموضوع في الميلانخوليا يظهر كهوام لا شعوري عكس ما هو موجود في الحداد، و الاختلاف الآخر هو فقدان تقدير الذات الذي نلاحظه في الميلانخوليا و لا نلاحظه في الحداد.
كما أن فرويد وصف في هذه المقالة، ميكانيزم دفاعي أساسي ضد فقدان الموضوع، و باعتبارنا أن استدخال الموضوع المفقود هو جزء منشطر من الأنا أمر بديهي؛ فهو السبب الأصلي لحدوث الاكتئاب، و هذا ما ذهبت إليه ميلاني كلاين عندما تكلمت عن الوضعية الاكتئابية و فكرة فقدان الموضوع.
و في سنة 1926 في كتابه"الكف، العرض و الحصر" أرجع فرويد مصدر الحصرإلى الخوف من الفراق و فقدان الموضوع، و فيها اقترح نموذج نظري يسمح بتعريف الحصرو تبيان أصله. فالحصر إذا يظهر كرد فعل للأنا في حالة الخطر. لكن يبقى المشكل المطروح هو تحديد هذا الخطر. و حسب فرويد، لا يمكن أن يتعلق بخطر على الحياة، و الذي سيعطي مكان لحصرالموت؛ لأنه لا يوجد في معاش الفرد تجربة الموت، لكن في اللاشعور ليس هناك أي شيء يعطي مضمون لتصورنا بتدمير الحياة. و حصر الموت هنا يجب أن يكون مدرك مقارنة بحصر الخصاء؛ إذا الحصر يعاش كرد فعل تجاه خطر الإخصاء، و الذي يظهر كرد فعل للفقدان و الانفصال.
2-2-1-1 نوع المخاطر في الحياة:
إن المخاطر قابلة أن تطلق حالة صدمات في مختلف أطوار الحياة وحسب فرويد فهي عادة راجعة إلى الخوف من الفراق وفقدان الموضوع المحبوب،أو إلى فقدان الحب من طرف الموضوع، وهذا الفقدان يمكن أن يؤدي إلى اتجاهات مختلفة كتراكم الرغبات الغير مشبعة وكذا حالة من الإكتئاب، وهذه الأخطار متتالية حسب فرويد وهي الولادة، فقدان الموضوع، فقدان القضيب ، فقدان حب الموضوع ، فقدان حب الأنا الأعلى.
2-2-1-1-1 خطر الولادة :
بالنسبة لفرويد مسار الولادة هي الحالة الخطيرة الأولى، والتقلبات الإقتصادية الناتجة تصبح نمط أولى لحالة الحصر. والحالة يعيشها المولود الجديد و الرضيع على شكل آلية من حالة الإشباع ، ولتحديد هذا الخطر استعاد فرويد نظرية Otto Rank حول صدمة الميلاد وإعتمد خصوصا على كتابه « le Trauma de la nissance et sa significativité pour la psychanalyse »
الذي يؤكد فيه على أن عملية الميلاد هي بالضبط أولى إنفصال عن الأم . وهذه الأخيرة لم تدرك كموضوع بسبب نرجسية الجنين. فالولادة يمكن أن نعتبرها إخصاء من الأم وفق معادلة طفل= قضيب
2-2-1-1-2 فقدان الأم كموضوع:
يستمر فقدان الأم كموضوع إلى مرحلة متأخرة جدا، وحسب فرويد فإن حالات الإشباع المتكررة هي التي خلقت هذا الموضوع. فالرضيع عندما يدرك الأم كموضوع لا يستطيع أن يفرق بين الغياب المؤقت والفقدان المستمر لأمه.
ولهذا نجده يتصرف في اللحظة التي يفقد فيها رؤية أمه كما لو أنه لا يراها ثانية، وهنا يصف فرويد الحصرالمتعاقب الذي يظهر كخطر فقدان الموضوع الأمومي والطفل تدريجيا ينتقل من مرحلة الخوف من فقدان الموضوع إلى الخوف من فقدان حب الموضوع.
2-2-1-1-3 قلق الخصاء كخطر فقدان الموضوع:
الخطر الأتي يتمثل في الخوف من الخصاء الذي يعود إلى المرحلة القضيبية. فهو يعاش كخطر فقدان الموضوع والموضوع هنا يكون القضيب. ولقد وضح فرويد أن حصر الخصاء هو أيضا حصرإنفصال حيث يخضع لنفس الشروط المحددة لفقدان الموضوع.
2-2-1-1-4 خطر فقدان حب الأنا الأعلى:
مع نمو وتقدم الطفل يصبح حصرالخصاء من تهديد أبوي مستدخل بإلحاح ذاتي شخصي، والخطر يصبح أيضا غير محدد أكثر. وهنا يتطور حصرالخصاء إلى حصرأخلاقي ويسبب خوف فقدان الأنا الأعلى ويعطي بدلك الأنا أهمية وقيمة للخطر، ويستجيب عندها بإثارة الحصر.
2-2-2 مكانة الحصروالإنفصال في النظرية الكلاينية:
إن إرتباط الظواهر بحصرالانفصال أخذ مكانة هامة في النظرية الكلاينية. سواء كان ذلك في الجانب النظري أو التطبيقي،وبفضل تجاربها في التحليل مع الأطفال الصغار، وكذا التحليل الذاتي لحدادها الخاص. حيث اكتشفت ميلاني كلاين الجذور الواضحة للإكتئاب في مرحلة الطفولة، ومنحت للحداد الدور المركزي ليس في علم النفس المرضي بل حتى في النمو العادي.
ولعرض مكانة حصرالانفصال وفقدان الموضوع عند ميلاني كلاي لابد من العودة إلى أفكارها الأساسية التي تحملها، إنطلاقا من عقدة الأوديب المبكرة، الوضعية شبه العظامية و الإكتئابية.حسب رأيها فإن حصرالانفصال وفقدان الموضوع يسجل ضمن الإطار التطوري من العلاقات الموضوعية ، ولا يوجد هناك ما يعرف باللاتمايز أنا-موضوع L’indifférenciation Moi -objet ،عكس ما جاء به فرويد في فكرة النرجسية الأولية.لأن الأنا والموضوع يدركان منذ الولادة *. والحصر هو رد فعل مباشر للعمل الداخلي لنزوات الموت وهو يأخذ شكلين إثنين حسب ميلاني كلاين وهما:
حصرالاضطهاد الذي ينتمي للوضعية الشبه عظامية.
الحصر الإكتئابي الذي ينتمي إلى الوضعية الإكتئابية.
إن العلاقات الموضوعية توجد منذ بداية الحياة. والموضوع الأول هو ثدي الأم، والذي ينشطر بالنسبة للطفل إلى ثدي جيد مشبع وثدي سيء محبط، وهذا الانشطار يصل إلى حد الانفصال الحب والكره ، فالكره وحصر الاضطهاد مرتبطان بالثدي المحبط السيئ، أما الحب والأمن مرتبطان المشبع الجيد. وفي الواقع الموضوع الجيد هو ثدي الأم المغذي والذي يشبع حاجات الرضيع ويكون بالطبع محبوبا، والثدي السيئ غائب ومكروه لأنه يمثل خطر الموت بالنسبة للطفل.
إن المحتوى الأولي للحصر هو إحساس الطفل بالخطر لعدم إشباع حاجاته بسبب غياب الأم، وهو ينشأ من الخطر الذي يهدد العضوية نزوات الموت.
إذن القلق في الأصل هو الخوف من الموت * .فحسب ميلاني كلاين يوجد في اللاشعور خوف من فناء الحياة؛ بما أن نزوة الموت موجودة حقا، فهذا دليل قاطع على أنه هناك خوف من فناء الحياة.وهي تنشط على مدى الزمني للفرد، وهذا ما يظهر في الوضعية الشبه فصامية.
أما في الوضعية الإكتئابية القلق يظهر على شكل تجاذب وجداني، فالرضيع يخاف من نزواته التدميرية أن تدمر الموضوع الذي يحبه والذي يخضع له داخليا كما أنه يكتشف تبعيته الكاملة له،ورغبته الشديدة في امتلاكه والحفاظ عليه وحمايته من كل شيء يدمره. فإذا كان الرضيع مندمج جيدا معه يستطيع أن يتذكر حبه للموضوع الجيد وحفظه عندما يكرهه. وإلاماهات المحبوبة، حيث يستطيع الرضيع أن يتقمصها.أما فقدانها فيؤدي إلى ظهور مجموعة من الأعراض والأحاسيس ، كالإحساس بالفقدان ، بالحزن،بالحنين للفقدان الجيد، بالذنب الذي يأتي للخطر الذي يهدد الموضوع الداخلي بإعتباره يعود إلى نزواته وهواما ته الشخصية. وحسب ميلاني كلاين فإن هذا يعتبر إشارة واضحة لبداية الحصرالإكتئابي، حيث يوجد هناك تذبذب مستمر بين حصرالاضطهاد لأن الكره هو الأقوى والحصر الإكتئابي لأن الحب أقوى من الكره.
2-2-2-1 الدفاعات الهوسية والنرجسية تجاه حصرالانفصال وفقدان الموضوع:
إن مكانة حصرالانفصال وفقدان الموضوع في النظرية الكلاينية، عرضت من طرف Jean Michel Quinodoz في كتابه La solitude apprivoisée سنة 1991.حيث بين بالتحديد دور الدفاعات الهوسية التي تسمح بإنكار الواقع النفسي للألم الإكتئابي .
إن الموضوع يكون مراقب بطريقة جد قوية على نمط منتصر ومهان.بالطريقة التي لا يسبب فيها فقدان الموضوع المعاناة والإحساس بالذنب، مع الانطواء نحو الموضوع الداخلي المثالي في الوقت نفسه، والذي يستطيع أيضا أن يكون كدفاع ضد حصرالانفصال و فقدان الموضوع، كما تلعب النرجسية هي الأخرى دور مهم كدفاع ضد حصرالانفصال و ضد تطور الموضوع كمنفصل و مختلف، حيث أن العلاقات النرجسية مؤسسة نحو تماهي إسقاطي l’indentification projectif، فالأجزاء الجيدة و/أو السيئة لفرد تكون مسقطة في الموضوع الذي يمثل جزءا في الفرد، وهذا النمط من العلاقات يسمح بمراقبة الموضوع له سمات وسواسية.
و في الأخير فإن إدراك الموضوع ـ كونه مختلف و مجنسsexué ـ تختلف الرغبة ولغيرة للمشهد البدائي للأم، كونها تدرك كمنفصل و كثنائية مع الأب الذي يسمح الوضعية الاكتئابية.
2-2-3 مكانة حصرالانفصال و فقدان الموضوع في نظرية مارغريت ماهلر:
وصف مارغريت ماهلر عدة مراحل لنمو الطفل، بداية من المرحلة الإجترارية العادية la phase autistique normale، ففي بداية الحياة يتعلق الأمر بحالة ضمول مشغولة بصفة أساسية من طرف النوم، حيث يكون الرضيع في حالة اللاتمايزl’indifférenciation مع العالم الخارجي، و بعد ذلك تأتي المرحلة الرمزية العادية la phase smbiotique normale و التي تكون فيها الأم مندمجة داخل علاقة ثنائية قوية كموضوع جزئي مندمج، إلا أنه لا يوجد تميز حقيقي بين الذات و الموضوع، و في الأخير بعد أن تسمح نمو بعض وظائف الطفل باكتساب القدرة على التحرر، و الانجذاب نحو المواضيع الخارجية ذات العلاقة الرمزية، تصل إلى مرحلة سيرورة الانفصال التفردية séparation – individuation، و التي يمكن اعتبارها كولادة بسيكولوجية و هي طبعا مختلفة عن الولادة البيولوجية.
تمر الولادة البسيكولوجية بدورها عبر نمو الأحاسيس ذات الاستقبال الخارجي الذي يسمح باستثمار ليبيداوي للمحيط الخارجي. ثم عبر الانتقال و التعلم و التي تعتبر انفصالات عاطفية مع الأم، و تجارب الانفصال هذه تعاش بأسلوب ابتهاجي و متعلق في نفس الوقت. حيث تستثمر الأم تدريجيا كموضوع منفصل، و الطفل يصل إلى مرحلة الرمزية، ليصل بعدها إلى ديمومة الموضوع و اللغة عند نهاية سيرورة الانفصال ـ التفردية séparation – individuation.
هذه المراحل التطورية التي وصفتها ماهلر توافق قبل كل شيء الشروط النفس داخلية اللاسلوكية، و الانفصال هنا يوافق النمو خارج الاندماج المزيجي la fusion symbiotique، حيث يكون ذو قيمة نفس ـ داخلية تسمح بتمييزه عن الأم، و كذا إدراك الحدود بين الذات و الموضوع، و الابتعاد و الانفصال عنه.
إن التمثيلات النفس ـ داخلية للذات مختلفة عن التمثيلات الموضوعية مما يؤدي إلى تطور التفردية و هذا بفضل تطور الوظائف المستقلة، كالذاكرة، الإدراك و القدرات المعرفية. و لهذا فإن التفرد نية توافق الشعور بالهوية الشخصية و بخصائصها الفردية. إن سيرورة الانفصال التفردية séparation – individuation تستلزم الإحساس بأن نكون منفصلين و في نفس الوقت على علاقة مع إلام. أي أن نكون على استقلالية تامة، و هذه الاستقلالية تسمح بنمو الطفل من جهة و توفير حنان الأم من جهة أخرى. و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه السيرورة يمكن تشغيلها أم إعادة تشغيلها عبر كامل مراحل العمر، خاصة عند بداية كل مرحلة جديدة حتى أنه هناك العديد من الباحثين من اعتبر سيرورة الانفصال ـ التفردية الخيط الذي يقود إلى المراهقة أمثال: P.Blos- J.F.Materscon- F.Ladam PH.J.Cammet- إلا أن ماهلر تحذر من الخلط من استعمال هذا المصطلح، فالسيرورة التي وصفتها تسمح بنيوية النفسية حتى في المراهقة هي عبارة عن بنية للنفسية.
2-2-5-4 انعكاسات حصرالانفصال و فقدان الموضوع في نظرية أنا فرويد:
رغم أن أنا فرويد كانت من أهم المحللين الأوائل الذين قاموا بملاحظة الطفل غي حالة الانفصال، إلا أن اهتمامها بهذا المشكل جاء متأخرا نوعا ما، ففي مؤلفاتها التي اهتمت بمعالجة الحصرمثل: Le traitement psychanalytique des enfants1927
أو Le moi et les mécanismes de défense 1936
لم نجد أي إشارة لحصرالانفصال و فقدان الموضوع، كما أنه لم تورد أي تلميح لنظرية فرويد الأخيرة التي قدمها حول الحصر1926.
كان اهتمام أنا فرويد بهذا الموضوع خلال الحرب العالمية الثانية، أين بدأت ملاحظاتها المنفصلين عن أبائهم بسبب الحرب. و فيها قدمت ملاحظات دقيقة حول الاكتئاب الطفولي la détresse enfantile قامت بوصفه وصفا جيدا. إلا أنها لم تربطه بشكل آلي بالقلق بصفة عامة و لا بقلق الانفصال و فقدان الموضوع بصفة خاصة. و في سنة 1965 و بالضبط في كتاب le normal et pathologique chez L enfant أثارت أنا فرويد مشكلة حصرالانفصال و فقدان الموضوع عند الطفل على الصعيدين الإكلينيكي و النظري، و فيه قدمت الأشكال المتعددة التي يأخذها الحصر خلال السنين الأولى؛ و من بين هذه الأشكال حصرالانفصال، و تقول أن كل شكل من أشكال الحصرهو خاصية مرتبطة بمرحلة خاصة من نمو العلاقة الموضوعية. ويمكن تلخيص هذه المراحل على الشكل التالي:
* المرحلة الأولى: اعتبرتها أنا فرويد مزيجية* و هي مرحلة الولادة البيولوجية في الثنائية أم/طفل، و يشكل حالة نرجسية غير متمايزة. و لا يوجد خلالها أي موضوع.
* أما المرحلة الثانية: فهي تظهر العلاقة مع الموضوع بإشباع الرغبات النفسية، و كذا العلاقة الاتكالية التي يوجد عليها الطفل.
* المرحلة الثالثة :هي مرحلة العلاقات السادية ـ الشرجية، و فيها يسعى الطفل إلى السيطرة و مراقبة الموضوع.
* المرحلة الرابعة: و هي مرحلة ثبات الموضوع، فيها يحدث اكتساب نوع من الاستقرار الإيجابي للموضوع المستدخل، بعيدا عن حالات الإشباع و اللإشباع.
*المرحلة الخامسة : هي المرحلة القضيبية: و فيها يكون اهتمام الطفل مركز حول الموضوع.
ومن خلال هذه المراحل نلاحظ أن الانفصال يعرف انعكاسات مختلفة تتبع المرحلة التي ظهرت فيها، فحصر الانفصال يظهر في المرحلة الأولى و ليتوافق مع حصرالانفصال الذي قدمه بولبي . و خلال المراحل القادمة، تظهر أشكال أخرى من حصرالانفصال؛ ففي المرحلة الثانية يظهر الاكتئاب الإتكالي كما قدمه سبتز سنة 1946. في حين مرحلة ثبات الموضوع، أي المرحلة الرابعة، يميزها حصرالخوف من فقدان حب الموضوع، و هذا ما ذهب إليه فرويد عندما تكلم عن أنواع مخاطر الحياة. وأخيرا، فإن التثبيت المستمر في المرحلة المزجية يؤدي إلى حصرالانفصال بشذوذ قوي خلال السنوات القادمة.
من خلال عرضنا لهذا المقال و النظريات المفسرة لحصرالإنفصال اتضح لنا أن هذا الأخير يعتبر أصعب تجربة نفسية يمر عليها الطفل خلال مراحل طفولته، يمكن أن تؤدي به إلى اضطرابات عديدة تؤثر حتما في حياة المستقبلية....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق