ف محمد أمين / التحليل النفسي اليوم
تدور أحداث الرواية في بغداد خلال الفترة الفوضوية التي أعقبت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وتقدم الرواية نظرة ساخرة قاتمة للحرب والعنف والهوية. بطل الرواية، هادي العتاق، هو تاجر خردة يجمع أجزاء من أجساد ضحايا التفجيرات ويخيطها معًا لإنشاء جثة كاملة. يعتقد أنه من خلال تجميع ودفن الجثة، ستتلقى الطقوس المناسبة وسترتاح في سلام. ومع ذلك، يتم إنعاش الجثة، لتصبح شخصية وحشية تُعرف باسم "فرانكنشتاين".
يشرع المخلوق في مهمة انتقام، تستهدف المسؤولين عن وفاة الأفراد الذين تتألف أجزاء أجسادهم من هذه الجثة. مع مرور الوقت، تبدأ الرواية في فقدان وضوح هدفها، حيث تتداخل الحدود بين العدالة والعنف العشوائي. تتناول الرواية موضوعات مهمة مثل :
العنف والهوية، تستكشف الرواية الهويات المجزأة للعراقيين، وتعكس جسد الوحش الممزق. الحرب والفوضى اذ تلتقط الرواية عبثية ورعب العراق بعد الغزو، حيث تتسم الحياة اليومية بالعنف.و أيضا العدالة والانتقام من خلال شخصية "فرانكشتاين"، تطرح الرواية أسئلة حول ما إذا كان العنف يمكن أن يخدم العدالة حقًا. كذلك نلاحظ الأسئلة الوجودية ـ يعكس صراع المخلوق الغريب مع هويته موضوعات وجودية أوسع نطاقًا تتعلق بتعريف الذات والإنسانية .
يمزج أحمد سعداوي عناصر الواقعية السحرية والرعب والفكاهة السوداء مع التعليقات الاجتماعية والسياسية الحادة و يعيد الكتاب تصور رواية فرانكشتاين لماري شيلي في سياق عراقي مميز، وتحويلها إلى مجاز حديث لنضالات البلاد.
و في هذا العرض ساقدم رؤية تحليلية نفسية مبسطة من خلال ما لمسته في هذا العمل الابداعي المميز .
تقدم رواية فرانكشتاين في بغداد للكاتب العراقي أحمد سعداوي استكشافًا عميقًا ومتعدد الأوجه للصدمة والهوية والحالة الإنسانية من خلال عدسة العراق ما بعد الغزو و الاحتلال الامريكي . ومن منظور التحليل النفسي، تصبح الرواية مجازًا للوعي الجماعي لمجتمع مزقه الحرب والعنف. وتعمل الشخصية المركزية، هادي العتاك، و المخلوق الغريب الذي تم تجميعه من أجزاء أجساد الضحايا، كاستعارة قوية للنفسية المجزأة للأفراد والهوية الجماعية للشعب العراقي. ومن خلال التعامل مع النظريات الفرويدية واللاكانية، يدرس هذا التحليل كيف تضفي الرواية طابعًا دراميًا على عودة المكبوت، وتفكك الهوية، والتفاعل بين العدالة والعنف ودافع الموت.
عودة المكبوت والصدمة الجماعية
في التحليل النفسي، عودة المكبوت مفهوم أساسي قدمه فرويد، اذ يصف كيف يتم دفع التجارب المؤلمة أو الرغبات غير المقبولة إلى اللاوعي، فقط لتطفو على السطح في أشكال مشوهة. وتشكل شخصية "المخلوق الغريب او فرانكشتاين" تجسيدًا مذهلاً لهذه الظاهرة. كل جزء من الجسم يستخدم في بناء هذا العمل هو جزء حرفي من حياة قطعها العنف، ومع ذلك لا يُسمح لهذه الأجزاء بالراحة. يحاول هادي، تاجر الخردة الذي يجمع المخلوق، التوفيق بين أهوال الحرب من خلال إعطاء الأجزاء المقطعة مظهرًا من الكمال. يتوازى هذا الفعل مع الآلية النفسية لبناء السرد للتعامل مع الصدمة. ومع ذلك، كما يقترح فرويد، فإن الكبت لا يؤدي إلى الحل؛ بل يؤدي إلى العودة الغريبة للمكبوت في شكل أعراض أو، في هذه الحالة، الجثة المتحركة.
يصبح الوحش، الذي أعيد إحياؤه ويسعى إلى العدالة، تذكيرًا حيًا بالحزن والعنف غير المحلولين اللذين يطاردان بغداد. إن انتشاره في المدينة يمكن أن يُنظَر إليه باعتباره ثوراناً لقلق مجتمعي مكبوت. وكما تتجلى الصدمة المكبوتة لدى الأفراد في سلوكيات عصابية أو عنيفة، فإن وجود "فرانكشتاين" يؤكد عجز المدينة عن دفن موتاها، حرفياً ومجازياً. إن النفس الجماعية لبغداد محاصرة في حلقة من العنف والحزن، حيث يرفض الماضي أن يظل مدفوناً.
بين الهوية المجزأة و مرحلة المرآة
يقدم مفهوم لاكان لمرحلة المرآة إطاراً مقنعاً لتحليل الهوية المجزأة التي يمثلها "المخلوق الغريب او فرانكشتاين". تصف لنا مرحلة المرآة لحظة حاسمة في نمو الطفل المبكرة عندما يدرك الفرد نفسه لأول مرة باعتباره كلاً متماسكاً، على الرغم من أن هذا الشعور بالاكتمال هو وهم. إن "فرانكشتاين" هنا ، باعتباره كياناً مركباً، يتحدى فكرة الذات الموحدة. إن جسده عبارة عن خليط من أجزاء متباينة، كل منها ينتمي إلى شخص مختلف له هوية وتاريخ فريد. إن كفاح هذا المخلوق لتحديد هويته في ــ "أنا الجميع ولا أحد" ــ يعكس الهوية المكسورة لمجتمع يتصارع مع عواقب الغزو والاحتلال.
ويمتد هذا التشرذم إلى ما هو أبعد من الوحش إلى الشخصيات والمدينة نفسها. ويعكس هادي، باعتباره خالق المخلوق، الوعي المكسور للعراقيين الذين يتعين عليهم أن يتنقلوا عبر التنافر بين هوياتهم الشخصية والعالم الفوضوي المتفكك من حولهم. وبغداد، التي كانت ذات يوم رمزاً للاستمرارية الثقافية والتاريخية، تُصوَّر كمدينة تحولت إلى أنقاض، حيث لا يستطيع حتى الموتى أن يستريحوا. ويصبح جسد الوحش خريطة غريبة لهذا التفكك، وتذكيراً جسدياً باستحالة تحقيق هوية متماسكة وسط مثل هذا التشرذم العميق.
العدالة والانتقام ودافع الموت
إن الموضوع المركزي في الرواية هو الغموض بين العدالة والانتقام. ففي البداية يسعى "فرانكشتاين" إلى الانتقام لموت الأفراد الذين تشكل أجزاؤهم جسده. ولكن مع تقدم مهمته، يفقد الوحش الوضوح بشأن غرضه، ويصبح رمزًا للعنف العشوائي. ويتردد صدى هذا المسار مع مفهوم فرويد لحفزة الموت، وهو دافع أساسي نحو الدمار و اجبارالتكرار الذي يقوض الجهود الرامية إلى تحقيق النظام والمعنى.
إن أفعال الوحش، في حين تبدو مبررة باعتبارها سعياً إلى العدالة، تتجه إلى الفوضى، مما يعكس الطبيعة الدورية للعنف في العراق بعد الغزو. فكل عمل انتقامي يخلق ضحايا جدد، مما يؤدي إلى إدامة الصدمة التي أدت إلى ظهور المخلوق في المقام الأول. وتسلط هذه الحلقة اللامتناهية من العنف الضوء على عبثية محاولة استعادة العدالة من خلال الانتقام. ومن منظور التحليل النفسي، يمكن اعتبار هذا ميل النفس إلى التدمير الذاتي عندما تفشل في دمج الصدمة في سرد متماسك. ويصبح الوحش وكيلاً لغريزة الموت، سواء بالنسبة لنفسه أو للمجتمع الذي يسكنه، حيث يجسد جاذبية التدمير التي لا هوادة فيها على الخلق.
الوحش باعتباره الواقعي
يوفر مفهوم لاكان للواقعي le reel طبقة أخرى من التفسير. يمثل مفهوم الواقعي le reel ما هو خارج اللغة والبنيات الرمزية، والحقيقة الخام غير الوسيطة التي تتحكم في النفس.
لا يمكن هنا معالجة هذا الأمر بالكامل اذ يشغل "فرانكشتاين" هذه المساحة من الواقعي . إنه غير قابل للتصنيف، موجود خارج حدود الأخلاق والقانون والهوية. تكافح الحكومة و يكافح الزعماء الدينيون ومواطنو بغداد جميعًا لتحديد الوحش، مما يعكس عجزهم عن مواجهة الحقيقة الخام لصدمتهم.
يجبر وجود الوحش شخصيات الرواية على مواجهة حقائق غير مريحة حول العدالة والذنب والتواطؤ. ومع ذلك، مثل الواقع، يقاوم المخلوق التكامل في أي إطار متماسك. إنه تجسيد لا يوصف لأهوال الحرب، وتذكير بالصدمة الجماعية غير المعالجة التي لا تزال تطارد المدينة.
و في الاخير فرانكشتاين في بغداد هي رواية نفسية تحليلية عميقة، تنسج معًا موضوعات الكبت والتجزأ و حفزة الموت لاستكشاف التأثير النفسي للحرب والعنف. من خلال شخصية "هادي العتاك" و مخلوقه " فرانكشتاين"، يلتقط أحمد سعداوي الهويات المكسورة والحزن غير المحلول لمجتمع يكافح من أجل التنقل في أعقاب الصدمة. إن روح الدعابة السوداء وعناصر الواقعية السحرية في الرواية تعزز أيضا قوتها الرمزية، وتقدم رؤية لعالم حيث تتلاشى الخطوط الفاصلة بين العدالة والانتقام، والإنسانية والوحشية، بشكل لا رجعة فيه. وبذلك، تجبر القراء على مواجهة تعقيدات الصدمة والطرق التي تشكل بها الهويات الفردية والجماعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق