بقلم : المحللة النفسية مرسلينا شعبان حسن
إن الحديث عن الأسباب و العوامل النّفسية التي كانت وراء حروب أهلية ، وحروب مدمرة كالتي قام بها "هتلر وموسوليني وحتى لينين " وحتى عبد الناصر وكذلك صدام حسين ، تبر ز لسمات القائد لديهما ، مسؤولية كبيرة من كون كلّ منهما كان مطروحاً كمثال أعلى لتأجيج الجماهير ، لأنه يصبح في آخر الأمر ، يؤمر من الخارج ومن الداخل عبر الأمر النفسي الذي يعطل المنطق والتفكير العقلاني ، من حيث القدرة على النقد ..
هذا الولاء للقائد يحدث شرخاً في المجتمع ، من جهة الجماهير التي تؤيده وتدين له بالحب والوفاء ، لأنه لا توجد سلطة نافذة تعمل بذاتها من دون أن تكون مدعومة بالحب ، هذا من جهة ومن جهة أخرى الجمهور الآخر في البلد الذي يحكمه هذا القائد ، حيث لم نجد في أية أمة عاشت ولاء مطلق من كل الجماهير الشعبية لقائد ، و حتى هذا لم يحظى به الانبياء ، فدائما هناك كفرة و مؤمنين و هناك مؤيدين ومعارضين ... الولاء في اية أمة للقائد سلاح ذو حدين ، من كونه يحدث شرخا في المجتمع من جهة الجماهير التي تؤيده ، وتدين له بالحب والوفاء , ومن جهة أخرى هنالك الجمهور الأخر التي يجد نفسه غير ملزم لا بالحب ولا بأحادية السلطة والقيادة حكما أمام التباين في المواقف تجاه القائد, مما ينتج عداء بين الشريحتين الاجتماعيتين , لأن هذه الحالة تفرز من يحب ، ومن لا يحب القائد ,أي باختصار نجد في البلد الواحد الحب الأعمى ، وكذلك الكره الأعمى ، أمام هذه الظاهرة و إذا ما توافرت الظروف اللازمة من سلاح ودعم خارجي ، كما بات حاصل اليوم في بلدنا ، لابد أن يؤدي ذلك إلى صدام وإلى حرب أهلية ، فالجماهير المولعة بالقائد تعتبره بمكانة الأولياء أو القديسين ، فترضخ لأوامره من دون قدرة على النقض ، لأن نظرتها إلى القائد كمثال أعلى , يدعمها عقائد أو مثل عليا لامجال سوى الإذعان لها ككل لا يتجزأ.
وهذه الكلية عندما تأخذ منحى الشمولية , لا تترك مجال للأخر المغاير سوى الإقصاء أو العداء , وإذا اندلعت الحرب تأخذ منحى الإلغاء , لأنه من الاستحالة الفصل عند العامة بين القائد المثالي في مخيلتهم ، وبين مثال القائد عندهم . وأي مس بوحدة هذه الازدواجية يؤدي إلى العداء المستشري إلى حدّ الالغاء الجسدي.
وكلما زاد التنافر في الرؤيا كلما ازدادت حدة القتال , إلى درجة أن الفارق يتضاءل حتى يصل إلى الهويات القاتلة. ويحصل هذا الامر بفعل عادي وكأن الشخص يقاتل بيد الغير كأنها يده ، ويعمل بعقل وبنية نفسية غير بنيته هو ، أما القاتل كشخص من لحم ودم و تاريخ اسري ولديه أولاد ينتظرونه ، فيمكن ان يقتل حينها بعقلية الاندماج بشخص مثله الأعلى في وحدة حال رهيبة , ولكن حكماً في واقع الحال هذا ، سوف يختلف ما أن يعود الشخص إلى رشده ، ويلملم نفسه وجسده ويتحسس خساراته من رفاقه ، وعائلته ليبدأ حينها بالتفكير, ويكتشف أن فعله هذا كان نتيجة غباء كبير منه ، كما لو كان تحت تأثير مخدر، من كونه كان مشلول الارادة ، عندما تورط في القتل في سبيل مبادئ آمن بها , لتتطور عنده الأمور ويصبح مشروع القتل يعمل بآليته الخاصة لديه , حتى القتل معمم لكل من يخالفه الرأي ، أو يتصدى لاستراتيجية مختلفة عنه ، كأن يقتل الشخص فيما بعد ربما زميله في المعركة ، من كون نزعة القتل خرجت من تحت سلطة القائد , لتغرق تحت سلطة ماكينة العنف المدمر، ونزعة التدمير والغضب في كل انسان , كذلك التعبئة الدينية والتي تدعي أنها وحدها تحمل الحقيقة المطلقة , هي بنظري مصدر عنف لأنها قد تلغي أية حقيقة أخرى ممكن أن تتممها الأولى . ففي مسيرة التحليل النفسي نجد الدّوالي وسلسلتها حسب التداعي ، تتجه تلقائيا نحو نقطة تلتقي عندها كل الخيوط ، في شكل مثال أعلى ، يتجسد بالمحلل أو من يقوم مقامه بالاسترشاد والدّعم .
ونظرا لتكرار هذه الظّاهرة , أصبح من الواضح أن الأنسان مهما كان تكوينه , يرنو دائما إلى تحقيق الأنا المثالي , يركض وراءه دون أن يتمكن من بلوغه , وإذا تجسد مثال الأنا في شخص ما يصبح القائد المثالي الذي تلتقي عنده كل الجماهير لكي تتماهى به ، أو حتى التوحد به إلى درجة ذوبانه والتهامه .
ونحن نعرف على صعيد التّحليل النفسي ، خلافا لما يحصل في الواقع في سيكولوجية الجماعة , أنه رغم أن الإطار الذي يحصل به التحليل هو أشبه بالمختبر , مركباً اصطفافيا فلا هو في الواقع رجلا مثاليا ولا يدعي تحقيق المعجزات أو القيام بأعمال خارقة.
فهو ينتظر أن تبزغ مظاهر المثالية ، لكي يعالجها لأنه يعتبرها أشبه بالحالة المرضية مدعومة بنرجسية مطلقة , مهمته أن يشفي مريضه منها ،وهي تتميز باتجاهين :
أتجاه أول : أن هذا المثال يستمد قوته بالنّسبة للمريض بأنه يفترض أنه عارف لِمَ يعانيه من أزمات نفسية ، وانه قادر على تحريره من القيود والعقد الموروثة حتى يحقق سعادته في الحياة عبر متع لا متناهية .
الاتجاه الثاني : ان كلامه اصبح مسموعا وله تداعيات نفسية وسلطوية على مسار الامور ، فيستعمل هذه على شفائه من مرض المثالية لكي يبددها وينقلها من المتخيل الى الواقع لكي يصبح في النّهاية رجل عادي بين الرجال وأن المثالية التي كان يسقطها عليه ليست إلاّ وهم نرجسي كانت الانا تضلله عبرها عن حقيقة ذاته ويلاحظ في قمة هذه المسيرة ان المريض يفقد قدرة النقد ويتعطل ذكاءه ويصبح مرهوناً بهذا الاخر الكبير الذي يمثل الأنا المثالي ..
واذا اجرينا مقارنة بين الموضعية المتصلة بكلا من المحلل والقائد يمكننا القول : ان الأول يفسح المجال كي تنكشف هذه الظّاهرة المكونة دون أن يشارك المريض المعتقد (أي أن يرى في نفسه عارف ويقين ) حتى يتمكن من تفكيكها أو تبديد وهمها , فيتمكن عندئذ من الحداد عليها ، أما الثّاني أي القّائد فأنه يعكس صورة مرآتية من صنع جماهيره فيتماهى بها ، ويرى بها تكاملا يضخم نرجسيته وتصبح أناه المتضخمة غير قابلة للنقد ، أو استكشاف أخطائه أو تصحيح مساره قبل فوات الأوان . وأعتقد أن نموذج صدام حسين والنهاية المأساوية لشعبه خير برهان على ذلك // ( عدنان حب الله ،2004م ، حول مفهوم الأنا وتمثلاته المختلفة ، أحد سيمنيرات المركز العربي للأبحاث النّفسية والتّحليلية ) .
هذه الظّاهرة موجودة منذ قديم الزمان ، قبل أن يكشفها التّحليل النّفسي فقد أشار عليها لابويسيه (Leboecier) في مقالة قصيرة له سنة 1552 تحت عنوان " العبودية المختارة "
يطرح الكاتب : كيف يمكن لقائد مثالي اختاره الشّعب لكي يحكمه بالعّدل والقسطاس أن يصبح فيما بعد طاغية , مستبدا ظالما يستبيح الأموال والأرزاق ويزرع الخوف والرعب في قلوب مواطنيه ، ويمارس العنف على كل من يخالفه الرّأي ، والشعب يذعن دون أن يبدي حراكا .
السّؤال الذي يطرح : ما هو السّر التي يجعله من هذا الشّخص العادي الذي ينصب نفسه في موضع يخوله التّحكم بسلطة مطلقة ، ويمارس على مواطنيه شتى أنواع الظلم والتعسف ؟
الصورة : هتلر يستعرض قواته بعد غزو بولندا الحرب العالمية الثانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق