إذا كان عالم التحليل النفسي ومؤسس مدارسه الأساسية في القرن العشرين، سيغموند فرويد، قد انكبّ، في معظم الدراسات التي وضعها بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على الأوضاع الاستثنائية والتي تخرج عن نطاق الحياة اليومية العادية، مثل دراسة شتى انواع العصاب والذهان والرهاب، من ناحية، ودراسة الأحلام من ناحية ثانية، فإنه في العام 1904 آثر ان يخطو خطوة جديدة في مجال اشتغاله على التحليل النفسي. و «جديدة» تحديداً بالمعنى العلمي للكلمة، إذ نعرف ان كثراً قبل فرويد اشتغلوا على الأوضاع الخارجة عن المألوف، ما يجعل عمل فرويد أقرب الى ان يكون تطويراً لعمل الآخرين في ذلك المجال اكثر منه تجديداً حقيقياً. اما بالنسبة الى منحاه الجديد، فإنه كان فيه مبتكراً ورائداً حقيقياً، ولعل ريادته في هذا المجال هي الأساس الذي ستنبني عليه شهرته اللاحقة كـ «مكتشف» للتحليل النفسي. ذلك ان سيغموند فرويد ركز اهتمامه في العام 1904 خصوصاً على ما سيسميه «سيكولوجية الحياة اليومية» او - في معنى آخر ووفق العنوان الفرعي للكتاب الجامع الذي نتج من ذلك الاهتمام: تطبيق التحليل النفسي على تفسير تصرفات الحياة العادية -. والحال ان هذا الكتاب ما إن صدر في طبعته الأولى حتى انتشر بسرعة واستقبل من جانب المعنيين استقبالاً حافلاً، حتى وإن كان البعض عارضه واجداً في تفسيراته واستنتاجاته «مبالغات من الصعب القبول بها»، غير ان هذا البعض لم يكن يشكل الأكثرية لحسن الحظ.
> ومن هنا ما يمكن قوله الآن بعد مئة عام من صدور هذا الكتاب من انه عرف كيف يفرض حضور مدارس جديدة ومتجددة لتيار في علم النفس - وربما في علم السلوك ايضاً - كما في التحليل النفسي، راح يرفض قبول التصرفات العادية على عواهنها، ويحاول ان يفسر حتى الأخطاء البسيطة في الحياة اليومية... تفسيرات متنوعة وتبدو غريبة بعض الشيء تحاول ان تجد فيها كم في الأحلام من قبلها، سبلاً للتوغل داخل الحياة الخفية لأصحابها.
بالنسبة الى فرويد كان موضوعه هنا، إذاً، وقائع الحياة العادية للبشر، بعدما كان جل اهتمامه في الماضي منصبّاً على دراسة العلوم والأمراض العصبية والتصرفات العيادية وصولاً الى الأحلام. هنا لم نعد إذاً، امام الأحلام وتفسيراتها والأبعاد العيادية التي كان فرويد قد بدأ يضفيها عليها. صرنا هنا امام الوقائع العادية، الأخطاء الصغيرة، الهنّات، ضروب النسيان وما الى ذلك ولا سيما منها تلك التي تطاول الأسماء والوجوه وأماكن إخفاء بعض الأشياء الصغيرة وصولاً حتى - على سبيل المثال - إلى ممارسات عابرة مثل يدين تقطعان قشرة برتقالة في الصحن بعد الانتهاء من أكل البرتقالة (!). من ناحية مبدئية نعرف طبعاً ان هذا كله يشكل جزءاً لا يتجزأ من وجود الإنسان ومن تصرفاته في كل يوم من حياته، الى درجة يبدو معها غير جدير بأي اهتمام، ويمكن التغاضي عنه فوراً. بيد ان فرويد، في دراسته هذه، سيبرهن لنا على ان كل هذه الأمور انما هي شهود حقيقية وكاشفة عن نشاطات النفس الخبيئة والعتمية، تسفر في شكل لا مفر منه عن وجود نوع من الوعي الباطني يؤكد لنا فرويد انه كلي الحضور في دواخلنا وشديد النباهة، ومستعد دائماً للتعبير عن نفسه، عبر تلك المسالك التي في مثل هذه الحال، تصبح مسالك تعبيرية مواربة.
منذ الصفحات الأولى لكتابه هذا، يقول لنا فرويد ان من غير الصحيح، ما جرى عليه الاعتقاد دائماً من ان «نسيان الأسماء» و «أخطاء القراءة» و «الإملاء» و «زلات اللسان»، وضروب التجاهل التي تعصى على الفهم، والولع «المرضي» بالأرقام ودلالاتها، والهنّات العادية، إنما هي دائماً من فعل الصدفة او تنتج من اسباب ميكانيكية او تقنية (جسمانية) مثل التعب او عدم النوم او ما الى ذلك. إنها كلها، بالنسبة الى رائد التحليل النفسي، علامات ودلالات تفوق أحجامها وأهميتها ودلالاتها، حجم وجودها نفسه في معظم الأحيان. ذلك أن للوعي الباطني هنا، منطقه ولغته الخاصة... وهو عبر هذين (المنطق واللغة) يستخدم كل الأمور التي أشرنا إليها، ليعلن في شكل رمزي وملموس، في آن معاً، عن حقيقته، وكذلك عن إرادته... وبالتالي عن رغبات قد تكون خفية لديه غير قابلة لأن يُعلَن عنها صراحة أو في نطاق الوعي الخارجي. أي في كلمات أخرى، إن هذه الحقيقة والإرادة ناهيك بالرغبات هي تلك التي تكون عادة مرفوضة من الوعي الواعي. وهنا يؤكد لنا فرويد اننا، في الحقيقة، لا نرتكب تلك الأخطاء اليومية إلا لأننا، في وعينا الباطن على الأقل، نريد ارتكابها. وفي هذا الإطار، انطلاقاً من هذه الفكرة التي لا يتوقف فرويد عن البرهنة عليها، فصلاً بعد فصل في دراسته هذه، معطياً عشرات الأمثال والتفسيرات، يحدثنا فرويد عن امور عدة اخرى قد يصعب في نهاية الأمر إحصاؤها: مثل الهدايا التي تقدم إلينا ثم «ننسى» وجودها او ننسى من قدمها إلينا اصلاً... لأننا نجد ان لا قيمة حقيقية لها. او قد يحدث لهذه الهدايا ان نضيعها للسبب نفسه... ما يضعنا في نهاية الأمر أمام «لغة خاصة» يخاطبنا الوعي الباطنيّ بها.
من الواضح ان سيغموند فرويد يخلص من هذا كله لكي يفيدنا بأن أوالية مثل هذه الأفعال غالباً ما تكون اكثر تعقيداً بكثير مما قد يخيل إلينا. وهنا ايضاً، يفتح فرويد الباب واسعاً امام كم هائل من التفسيرات، ولكن انطلاقاً من امثلة ملموسة. واللافت هنا ان فرويد، الذي كان اعتاد في دراساته السابقة حول الحالات المرضية والخارجة عن المألوف، ان يستعير امثلته من اناس آخرين غالباً ما يكونون مرضاه، او اناس يعرفهم او رويت له عنهم حكايات، نجده هنا في «سيكولوجية الحياة اليومية» يستعير معظم الأمثلة التي يعرضها لنا من حياته الخاصة ومن تصرفاته اليومية... بيد انه في الوقت نفسه، على عكس ما يفعل عادة، ها هو هنا يفضل ان يتكلم عن الموضوع من دون ان يحاول استخلاص قوانين عامة من الأمثلة التي يوردها. إن كل ما يهمه في هذا السياق هو ان يوفر لقارئه الوسيلة التي تمكنه من ان يفسر التصرف او الفعل تفسيراً صحيحاً لا اكثر.
أما على سبيل الاستنتاج النهائي - كما يقول دارسو هذا الكتاب الذي يرى كثر انه اكثر كتب سيغموند فرويد فائدة وإمتاعاً - فإن صاحب «علم الأحلام» و «الطوطم والتابو» يعود ليؤكد لنا هنا ان هذه الاضطرابات العابرة والموقتة، والتي يتمكن العقل من تجاوزها بسرعة ليستعيد حياته العادية المألوفة، انما هي توكيد جديد ومنطقي على وجود «حتمية نفسانية اكثر اتساعاً مما يخيل إلينا بكثير». وهي تبرهن في الوقت نفسه على وجود رغبة خبيئة في كل لحظة، تأتي لتُضاف في شكل غير واع، إلى الأسباب المعترف بها لكل تصرفاتنا وأفعالنا وتجازف عادة بأن تربك تلك التصرفات...
عندما وضع سيغموند فرويد (1856- 1939) هذه الدراسة، كان في الثامنة والأربعين من عمره وكان قد أنجز بنجاح كبير تأسيسه - أو إعادة تأسيسه وفق البعض - لقوانين علم النفس منتقلاً الى التحليل النفسي، وسط رهط من تلاميذ ورفاق من الواضح انه وإياهم - وعلى رغم الخلافات الضخمة التي اندلعت بينهم لاحقاً وفرّقتهم مدارس وشيعاً - هيمنوا على دراسة النفس وأحوالها في القرن العشرين، عبر مؤلفات ومؤتمرات ودراسات وسجالات، كان فرويد قطبها الأساس، هو الذي ترك للقرن العشرين عشرات الكتب والدراسات التي ساعدت على فهم الإنسان لنفسه ولدواخله اكثر وأكثر. ومن مؤلفات فرويد الكثيرة والمهمة في هذا السياق «تفسير الأحلام» (أو «علم الأحلام») و «قلق في الحضارة» و «موسى والتوحيد» و «الفن والتحليل النفسي»، اضافة الى عشرات الدراسات التي جمعتها ألوف الصفحات وصارت معاً جزءاً من ثقافة الإنسان في طول القرن العشرين وعرضه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق