د. مرسلينا شعبان حسن
محللة نفسية - من سوريا
سميت هذه الظاهرة بمتلازمة التعب النفسي
ومن أوائل من تحدثوا عن هذه الحالة النفسية المركبة والعميقة عالمة النفس النمساوية (الامريكية) دويتش Helene Deutsch " ، حيث برزت هذه المحللة من خلال اهتماماتها التي تركزت حول فهم مرحلة الامومة ، فبحسب دويتش الشخص الذي يعرض خدماته لمساعدة الاخرين ، فانه يتوقع ان يحصل على ثناء ، و إشادة تشعره بالقوة والسعادة رغم التعب و الارهاق ، الذي قد يتعرض له ثم يشعر بالسيطرة على الاخرين ، من خلال ذلك المجهود العاطفي المقدم لهم ، دوتش فسرت هذه الحالة على انها ماسوشية Masochism اجتماعية. حيث من خلال هذا التفاني بالعطاء تعرض الأم نفسها للتعب والارهاق لخدمة أبنائها ، وبذلك تحقق اللذة والقوة والسيطرة عليهم من خلال تبعيتهم لها في القرار . إذ نجد بعض الأمهات يسيطرن على ابنائهن من خلال تعريض أنفسهن للألم والتضحية والتعب. و هذه الحالة بحسب دويتش ، أن الام التي تتعب جدا مع اطفالها وزوجها ،
ومنزلها تستطيع ان تسيطر على العائلة بطريقة لاشعورية من خلال ماسوشية masochism اجتماعية ، حيث أن الاسرة والزوج و الاطفال سيمجدون هذه التضحيات ، وسوف تسيطر على قوام و مقومات بيتها من خلال تضحياتها تلك لكن هذه اللذة التي تعيشها من خلال السيطرة على الاخرين تكون فوق طاقة الأم ، لأنها تعتمد على تسخير وارهاق للنفس التي ستنفذ طاقتها الكامنة قريبا .
من خلال حالات عيادية مختلفة عاينت هذه الظاهرة ، حيث كثرت لاسيما خلال الاحداث المضطربة في بلدنا خلال الفترة الأخيرة الماضية ..وفيما يلي سوف اعرض لاحداها لتوضيح الفكر التي ابغي معالجتها وايصالها لمن يقرأ مقالي هذا ..
" وجدان " هو الاسم التي اخترته لتقديم حالة مريضتي والتي هي أم لأربعة اولاد فتاتين وشابين و عمرها لم يتجاوز بعد الأربعين سنة ، وهي ربة بيت مميزة واجتماعية بامتياز، لكنها منذ اكثر من سنة تشعر بالتعب و الارهاق و الاعياء النفسي ، فهي لم تعد تهنئ بالنوم ، ولم تعد قادرة على تقديم اي شيء لأولادها و بيتها، لديها صداع و آلام في الجهة اليسرى من الجسم ، واضطراب في حرارة جسمها ، ولديها خوف و شكوك مختلفة حيث مناعتها اصبحت ضعيفة ، فقد أصيبت بالرشح "الانفلونزا عدة مرات خلال هذا الشتاء "ولديها عدوى وحساسية جلدية في مناطق عدة من جسمها.
استهلكت الكثير والعديد من الادوية والتحاليل والاشعة الطبية والزيارات المتعددة للعيادات المختلفة والنتيجة هي كانت لا تشخيص واضح لحالتها ، وبذلك أحد الأطباء أرشدها لزيارة عيادتي .
وبعد معاينتي "وجدان" وجدت أن حالتها تندرج تحت "متلازمة التعب النفسي" اذ لديها شكوى وشعور بالتفاني والانهاك لما تقدمه لعائلتها ، وزوجها غير مهتم ولا يقدر على تقديم شيء لأولاده ،وانه ومنذ تزوجته كان رهن لإشارات والدتها فقد قضت معه الكثير لقاء حفاظها على بيتها وأطفالها ، الشعور الماسوشي ;( Masochism .كان مسيطر على كامل حضورها وكلامها وأمثلتها عن تعاملها مع اسرتها ، وحتى مع أخوتها ، فقد ظلمت بعد وفاة والديها ، وكذلك لديها شعور قديم ان والديها ولاسيما والدتها كانت تميز أخوتها عنها مشكلتها بدت لاشعورية ، وقديمة ، وبالتالي فان العلاج سيكون بالتأكيد متناغما ومتوافقا مع سبب
ومنبع المشكلة ..
لو عدنا لأفكار "دويتش" فان التعب والمعاناة القديمين يفترض بهما أن يجعلا "وجدان" تبتعد عن السيطرة على الاخرين من حولها ، بينما يكون تعبيرا منها على رفض الواقع ، و رغبة في الهروب منه ومن التزاماته ، و متطلبات البيت والزوج والاطفال ، انها عداوة كامنة نحو الواقع المفروض والمرفوض من قبلها ، فقد تزوجت من ابن عم لها بدون إذنها ، ولكنها فيما بعد رضيت من كونه متعلم ولديه شهادة عالية ، ولكن معاناتها التي خبرتها معه ، جعلتها تفتقد حياتها السابقة قبل الزواج رغم بعض الشكوى في تعامل والدتها معها ، وقبل ان تقدم تضحياتها الماسوشية لزوجها ، واطفالها كتعويض عن مركزيتها في بيت والديها ، حيث كانت هي البنت الوسطى وترتيبها هو الخامس بين أخواتها ومن بعدها اخت وأخ ، لكنها لا تستطيع الان ان تتوقف او تتخلى عن اسرتها التي تنتمي لها وينتمون لها ! وكحل وسط فان " التعب النفسي سيكون الحل المقبول للذات و للآخرين ومقبول اجتماعيا .
بصورة ابسط، فان " وجدان" خلال سنوات زواجها سيطر عليها نمط ماسوشي يقوم بتقديم التضحيات بآلام وتعب لخدمة الاسرة، وقد حصلت على حب وتقدير اسرتها نتيجة تعبها وآلامها وتضحياتها. اما الان و لأنها لم تعد تقدر على المزيد من التضحيات ، ولأن زوجها حصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات تجد نفسها مهملة وتجد نفسها أقل ، ولسان حالها يقول : أنا أضحي
وهو ينجح و يا خوفي من تعب السنين القادمة ، و لأنها لا تقدر على التخلي عن اسرتها فسيكون الحل ايضا ماسوشياً ، من أنها تخاف أن يذهب تعبها سدى مع الزوج ومع أولادها ، اي ان " التعب النفسي" الذي من خلال الآلام والمعانة سيكون حلا مرة اخرى. انه حل سوف يجعلها تسيطر على الاسرة من جديد ، من كون مرضها سوف يجعل أسرتها ملتفة حولها ، وسيكون ايضا مقبول من وجهة نظر المجتمع وسيعتبر قبل ذلك كله متنفسا لا شعوريا لمكبوتات ترفض الواقع ، وارهاصاته
البالغة القادم ، وحلها المرضي هذا سيكون مخرج بنكهة ماسوشية متألمة و لاذّة .. ان الماسوشية لدى "وجدان" ستتطور لتكون شكلا ايضا من " النرجسية التدميريةDestructive
Narcissistic التي ستحب الذات ، وستتلذذ بغير وعي بتعذيب الذات لتحصل على رضا و التفات وانتباه من الاخرين ، انها لحظة للتلذذ بالمعاناة ، وحب النفس المتألمة التي يلتف نحو أنينها و معاناتها المقربون منها من خلال متابعتي النفسية العلاجية لها ، كان عليها ان تتعلم ان تحب واقعها وليس رفضه. و من خلال جلسات التداعي الحر وجلسات الاسترخاء النفس حركية التي كنت أجريها لها عندما تأتيني وهي مرهقة من كونها لم تقدر ان تشعر بانها مسترخية بنومها لعدة ايام ..
خلال المتابعة هذه كانت تتحرر من الكثير من المكبوتات و تربية القهر والتفاني التي أنشئت عليها لتبرز نفسها في وسط عائلتها الأولى مع والديها وأخوتها ، حيث كان الأب يفضلها وينتبه لها ، أكثر من الجميع ولكن والدتها كانت جلى اهتمامها لأخوتها الذكور وكذلك لأخواتها وهي لا تهتم لتعبها ولا تحس بها ، كما عبرت عن أن والدتها كانت تشعر باعتداء اخوها الكبير عليها ، ولم تعر لذلك أي اهتمام ، بل كانت تضغط عليها لذلك أكثر ، فهذه القطيعة مع ماضيها ، باتت اليوم وخلال العلاج تبدي تقدماً ونواة التصالح مع ذلك الواقع التي تسميه مريرا ، وما تطلبه هو أن تخلص من كل تلك الأفكار . كان هناك مرحلة بعدها كان على " وجدان " ان تتعلم فيها انها من الممكن ان تحب نفسها ، وتحب اطفالها ، و زوجها دون ان تغوص في الألم بماسوشيتها ، ودون ان تبحث عن السيطرة على افراد اسرتها. حيث أن شكواها المرضية أتت من كون ابنها البكر سافر الأردن
بدون موافقتها وفقط أخذ رأي والده ..
ما تم العمل عليه مع هذه السيدة في متابعتي العيادية لها " هو كيفية استبدال قوى المكبوتات اللاشعورية المسيطرة على حياتها بقوى العقل الشعوري الواعي ، الذي أصبحت واعية لها ومتصالحة معها ، وبدأت تعطى فرصة اكبر في ممارسة دور القيادة لزوجها وهي تشاركه ، رحمة بعيش حياة نفسية وشخصية أفضل لجميع أفراد أسرتها ، لتغدو بذلك انسانة ناجحة مع واقعها الجديد ، واستعادة اعترافها بموقع الزوج العائلي ..
كما تشجعت من خلال المتابعة النفسية ، أن ان تسجل فرع في الجامعة المفتوحة // (التعليم المفتوح) ونجحت في ذلك وقدمت موادها للفصل الأول بنجاح ملفت رغم كدرها على سفر ولدها ، وحتى رغم استنفار أوضاع البلد ، وكل ذلك رغبة أن تقترب من عالم زوجها ، وعالم بناتها الجامعيتين ، حتى لا تشعر زوجها أنها أقل منه ويشفق عليها ، وهنا من الناحية العلاجية اشارة فارقة لانعطافها عن شعور الماسوشية ، دون ان تكون أسيرة فكرة التضحيات والسيطرة اللاشعورية ، وقد خف عنها تقريبا ذلك الاعياء واصبحت اكثر حيوية ، واكثر نشاط وحبا لنفسها و حياتها الجديدة المليئة بالفعاليات ، حتى منها الاغاثية في ظل الواقع الامني والاجتماعي السيء اليوم في البلا د أخيرا أجد ان تناول حالات الاضطرابات النفسية من منظور السببية التحليلية القائمة على فهم قوة اللاشعور ، تجعل المتتبع لهذا الاضطراب يشعر بان هناك فوضى في كل مكان من عالم هذاالانسان ، لكن علاج اللاشعور يشكل احيانا مفترق طريق لبعض المرضى ممن تنبع مشكلاتهم النفسية من سبب لا واعي وليس من سبب واعي . وفي بلادنا ومن متابعاتي العيادية أقول : ماأكثر هذه الحالات ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق