تم نشر هذا المقال في مجلة مواقف عدد 61-62 بتاريخ :1 أغسطس 1989
1 من المسار الطبي الى المسار التحليلي :
أتيت الى التحليل النفسي عن طريق المسار الطبي . بدأت دراستي الطبية في فرنسا و تخصصت في الامراض الداخلية ثك الامراض العصبية لم أتوقف عند الاختصاصات الطبية لأنها لم تكن كافية لاشباع رغبتي في المعرفة الاساسية . الطب النفسي هو المفترق ما بين الجسد و الفكر . و ما يرتجى من التحليل النفس هو اكتشاف الرغبة في المعرفة . و أذكر أن المرة الاولى التي فكرت فيها في التحليل النفسي يعود الى سن المراهقة . لما كنت في حوالي السابعة عشرة و قرأت لأول مرة كتاب مترجما عن التحليل النفسي . بقيت الفكرة كامنة الى أن دخلت ميدان الطب و الاعصاب و تمكنت من تحقيق هذه الامنية البعيدة قد تكون هناك اسباب تعود الى الطفولة و لكن سردها هنا قد يجرني الى الدخول في خصوصيات .
2 نظرة المجتمع العربي للمحلل النفساني :
انطلقت من خبرتي الخاصة من خلال اشتغالي بالتحليل النفسي في لبنان خلال احدى عشرة سنة هناك تصوران . تصور العارف بالموضوع . و هو الطالب ( يطلب التحليل النفسي ) أي الرجل المثقف . و هناك الاكثرية الساحقة التي لا تعرف شيئا عن الموضوع و تنظر الى المحلل بنفس الصفة و الخشية اللتين تنظر بها الى الشيخ الذي يتكلم في السيطرة على الارواح الشريرة و لكن سرعان ما يتبدد هذا الوهم و يتبين لهم أن العلاقة هي علاقة عقلانية مرتبطة بتاريخ و ليس بالورائيات الغامضة . هنا تتبن لهم فاعلية سحر الكلمة التي تنطق و تعبر عن الحقيقة فالمجتمع العربي لم يتمنكن حتى الان من تدجين الارواح الشريرة التي يعدها مصدرا للاذى و الخوف . فالعالم الخيالي كما هو جانب مثير ( منبع للذة و الخير ) و له جانب مخيف ( منبع للشر و الضرر ) و لا يمكن السيطرة عليه . لذلك نحيطه بالعديد من الطقوس التي تهيئ له الحماية .
3 اشكالية التلقي و القابلية :
يعود عدم تقبل التحليل النفسي ف المجتمعات العربية الى أسباب خاصة بالمجتمع العربي و تقاليده و لاسباب تعود الى منطلقات التحليل الفسي ذاته اذا اخذنا الجانب الثاني فظهور التحليل النفسي متاخم لأزمة العصر الحضاري المادي . المجتمع الغربي الذي أصبح مجتمعا عقلانيا . ضيق الخناق على مفهوم الانسان . المميز برغبته و بعلاقته الانسانية . المجتمع الحضاري عالج مشكلة الانسان من الناحية الحاجاتية و بقيت أشياء لم ينتبه لها . من هنا نجد ان الارضية التي ولد عليها التحليل النفسي ليست هي الموجودة في العالم العربي . هذا من ناحية و من ناحية أخرى فالمجتمع العربي غير مهيأ لتقبل فكر ( غريب ) لم ينبع أو لم يكن وليد تكوينه . في الفكر العربي هناك عالم الخيال و هو في مستوى اللاعقلاني و يتعايش هذا العالم مع العالم الواقعي العقلاني و قد يكون هذا حاجزا نفسيا أمام المنهجية التحليلية العقلانية . هذ ا بالاضافة الى وجود علاجات نفسية تقليدية لا تزال تمارس في الاوساط الشعبية و تحافظ على منهجيتها منذ قرون . و اذكر بأن الذين كانوا يستشيرون الشيخ أكثر بكثير من الذين كانوا يستشيرون الطبيب النفسي . و في هذا مصاب آخر للنظرية النفسية الغربية التي تركز على الذات و تحملها مسؤولية المرض . ممما ينتج عن ذلك شعور مؤلم بالذنب أما النظرية العربية فتقوم على نقلة نوعية من الداخل الى الخارج من حيث أم كل ما يمس الذات من أذى ناجم عن أرواح شريرة موجودة في خارج و يعمل الشيخ على حماية مريضه يبعد أذاها عنه ببعض الطقوس المعروفة من هنا يشعر المريض بانتهاء مشكلاته اولا و ثانيا بوجود شخص يحميه من هذه المشكلات .
4 البدايات و الهجرة :
ظهر التحليل النفسي في البلاد العربية اولا في مصر بعد الحرب العالمية الثانية و ظهر فوج من المحللين اهتموا بكتب فرويد و ترجمتها و الغريب ان أكثر هؤلاء المحللين هاجروا الى الخارج و لم يتبقى منهم الا القليل لم يتكلم أحد على أسباب هجرتهم و هي جديرة بالعناية و الاهتمام أما في لبنان فظهرت الموجة التحليلة قبل الحرب الاهلية بقليل و كان يعلق عليها الكثير من الأمل لان هذا البلد ملتقى الحضارة الغربية و الشرقية و المؤهل أكثر من غيره لضمان انطلاقة التحليل النفسي . الفت بالاشتراك مع ثلاث محللين ( الجمعية اللبنانية التحليلية ) . و رغم الحرب صمدت هذه الجمعية عدة سنوات و كان التحليل يدرس كمادة أساسية في علم النفس في الجامعة اللبنانية قسم الآداب و في الجامعة اليسوعية أما الجامعة الامريكية فلم تكن تهتم بالموضوع الا نادرا .
أبدى المحللون الفرنسيون اهتماما بنشأة التحليل النفسي في لبنان فقد ألقى جاك لاكان محاضرة في لبنان سنة 1973 كما أن سيرج لوكلير ألقى سنة 1978 سلسلة محاضرات في بيروت اضافة الى غيرهم من المحللين و مع تمزق البلدو انقسامه توقفت الجمعية عن نشاطها و أصبح كل عضو يعمل بمفرده اضطررت في النهاية الى الهجرة . بعدما تبين لي ان العمل أصبح مستحيلا . و من اهم شروط الممارسة التحليلية هو توافر جو العمل فحرية الكلام التي هي سند الممارسة التحليلية يجب ان تتوافر لها الضماانة اللازمة .
5 الصحوة اللاهوتية :
ظهرت الصحوة اللاهوتية بوضوح بعد اجهاض مفهوم القومية العربية لان مفهوم القومية وجد في الاساس بعد انحسار الدولة العثمانية و الاحتلال الفرنسي
و لكن بعد الجولة الاخيرة من الحرب على الساحة اللبنانية و ما سمي بحروب التحرير تبين العلاقة مع الغرب ليست محصورة بالاحتلال العسكري فهناك حضارة غربية مهيمنة مبنية على اسس علمية و تقنية و هي نتاج مسيرة فكرية تعود الى الفكر الفلسفي في عصر الانوار و القائمة على ترجمة الفكر الى عمل مادي / علمي . في المشرق العربي أمام هذا المد الحضاري الذي يرتهن كذلك حاجات المشرق الغربي ظهرت الصحوة الدينية رغبة في الحفاظ على هوية الشرق و التزاماته بحضارته الروحية المغايرة . الا ان غياب مرحلة تمهيدية لمفكرين قادرين على استيعاب الفكر الغربي و الحفاظ على الهوية الحضارية الدينية في الوقت نفسه فتح المجال للانعزال . تبدو الصحوة الدينية كأنها دفاع عن النفس . و يمكن مقاربتها تحليليا و فك اولياتها . لكن هذا يتطلب مجالا آخر .
عدنان حب الله باريـــــس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق