كان عام 1905 عام رخاء بالنسب لفرويد و كما يقول هو نقلا عن التراث اليهودي فان عام الرخاء لا يأتي الا كل سبع سنوات و في هذا العام صدر له كتابان و أربع بحوث و أول الكتابان ربما كان كتاب ( النكتة و علاقتها باللاشعور ) الذي يشتهر باسم كتاب النكتة فقط و ربما كان كتاب ( ثلاث مقالات في نظرية الجنس ) فلا شيء مأكد في هذه المسألة و المهم أن الكتابين كان يكتبهما فرويد في آن واحد و يضع اصول احدهما في درج ثان و يتباعد الكتابة عليهما معا بحسب مزاجه و كلما ارهقه التفكير في موضوع اي منهما و ربما كانت هذه المزاوجة بين الكتابين لتشابه موضوعيهما .
و كتاب النكتة من الصعب ترجمته لأنه يتناول الفكاه الالمانية و يورد النكات التي يوردها بالالمانية و يستحيل ترجمتها او نقلها الى روح اللغة الاخرى المترجم اليها ثم ان ما يورده فرويد في الكتاب انما هي نكت يهودية و هذه صعوبة اخرى تنضاف الى الصعوبة الاولى و الصعوبة الاهم هي ترجمة عنوان الكتاب نفسه فاصطلاح der witz يترجم الى الانجليزية wit يعني الظرف او خفة الدم و لكن المقصود في الكتاب هو مناقشة النكات و ما تتضمنه و كلمة wit الانجليزية لمستوى من الفكاهة ارفع مما يقصد فرويد و من ثمة رأت آنا ابنة فرويد أن تكون الترجمة الى jokes بمعنى النكات و بدلا من الصفة الالمانية witzing رؤي ان تكون الصفة joky لا كما نكول ( ظريف ) او ( مداعب ) و انما ما هو مشهور ( ابن النكتة ) او له ( قفشات ) .
و الكتاب على أي الاحوال صعب و لم يقبل الجمهور على قراءته و لم يعجب فرويد نفسه و ان كان بعد نحو عشرين سنة قد عاد الى الموضوع نفسه و تناول الفكاهة ككل في بحث صغير بالعنوان نفسه ( der humer ) 1987 الا أنه قد ذكر عن كتاب النكتة انه خرج به عن الخط الفكري الذي ارتسمه لنفسه .
و يبدو ان فكرة الفكاهة او النكتة قد راودت فرويد طويلا و اورد منها الكثير في كتابه تفسير الاحلام 1900 حتى أنه لما ارسل مخطوطة الكتاب لصديقه فليس ليقرأه و يبدي ملحوظاته عليه نبهه الى ما فيه من نكات كثيرة و هذا التنبيه هو الذي حدا به أن يتناول موضوع النكتة في المستقبل .
و جاء تأثير ثان حدا بفرويد ليكتب في النكتة فقد قرأ لثيودور ليبس 1851-1914 شيئا عن اللاشعور 1898 و تناول فرويد في كتابه تفسير الاحلام آراء ليبس في ذلك و ليبس أيضا كتب في موضوع النكتة و الفكاهة و ما هو مضحك . و كتابه ( komk und humer à) 1989 هو الدافع الثاني الذي جعل فرويد يدلي بدلوه في هذا الموضوع .
و كعادة فرويد فانه يبدأ الكتاب بفذلكة تاريخية حول المؤلفين الذين تناولوا النكتة و آرائهم في ذلك ثم يتصدى بالشرح للتقنيات التي يمكن ان تتوسل بها النكتة لتوصيل الاثر المراد توصيله او للتعبير عن المشاعر او الفكرة المراد التعبير عنها و من ذلك ان النكتة بما هي كذلك تتميز بالايجاز و يستخدم فيه التكثيف و الابدال و تشبه النكتة في ذلك عمل الحلم و النكتة قد نلجأ فيها الى كلمة و نريد بها معنى مخالفا و النكتة كلام له معنى خبئ لا يظهر من الصياغة الظاهرة . و يقال حينذاك ان صاحب النكتة يلعب بالالفاظ و قد تكون في النكتة احالة الى امور باستخدام عنصر المماثلة و التشابه القريب او البعيد . و لعل اهم ما في النكتة انها منصرف نفسي و لكنها ايضا منصرف اقتصادي باقل عدد من الكلمات و باختصار المواقف و تستخدم النكتة عنصر المغالطة و من عناصرها كذلك الازاحة و التوحيد و التماثل و بعض النكت فيها السخرية واضحة .
و النكتة منها النوع البسيط و الصريح و منها النوع الذي يبلغ غاية معينة و هي غاية ممنوعة او ان النكتة تعبير عن رغبات او افكار مكفوفة و بعض النكت لفظية و بعضها فكري يحتاج لجهد لفهمه و غاية النكتة التسلية او غايتها استحداث حالة من الانسجام لا نستشعرها الا لدى المطالعة الجمالية لان صياغة النكتة عملية جمالية ابداعية و في النكتة نستطيع ان نخبر مالا نستطيع ان نخبره في الاحوال العادية و ان نصرح بما لا نستطيع ان نصرح به و بعض النكت جنسية و بعضها عدوانية و النكتة الجنسية تستمد اللذة التي تستحدثها من تناولها لامور فاضحة و محرمة و النكتة العدوانية ممارسة للطاقة العدوانية في شكل نقد او سخرية و في النكتة الجنسية يمكن ان يكون موضوعها رجاليا محضا و يمكن ان يكون حريميا و يمكن ان تكون النكتة للجنسين معا . و هناك علاقة في النكتة ( الوسخة )و في الاعصبة لا تتمايز المنطقتان التناسلية و الاخراجية و هذا النوع من النكتة كانه تعري من اضطرابات الجنس . حيث قائل النكتة يتعمد ان يخجل المستمعين و لذلك فالغالب انه في النكتة من هذا النوع افراها ثلاثة قائلها و المتلذذ بها للصياغة المتميزة بها . ثم الذي لا يرى فيها الا انها نكتة تعرض للمحرم و للدنس و بعض النكت نمارس ازاءها الكبت و نحاول ان لا نظهر اننا مسرورون بها او انها فعلا تستنفر ميكانيزمات الكبت عندنا فنصاب ازاءها بالكدر و الكبت ايضا هو الذي تخرج النكتة بسببه مموهة و مقنعة و بعض النكت فيها استهزاء بالقدر او السخرية بالدين و بعضها فيه عنصر السخف او اللامعقولية .
و تأتي اللذة الجمالية التي تتوخاها النكتة اذن من جهتين : صياغتها و غايتها فالصياغة فنية جمالية فيها الايجاز و اللعب بالالفاظ و التعدل و الابدال و الازاحة و التكثيف و التلميح و المماثلة و التقريب و مستمع النكتة يستلمحها عندما يفهمها و فهمه لها يسعده باعتباره عند مستواها . و النكتة يجد فيها صدى لمشاعره ازاء موضوع و هي لغة تواصل بين القائل و المستمع و كلاهما يعبر عنه و انما هذه المرة بطريقة فنية و الكلمة في النكتة لها معنى و لها جرس ايضا و النكتة قد تستخدم القافية و قد تكون بها اوزان و اللذيذ في النكتة اننا فيها نعيد اكتشاف شيء نعرفه و بعض النكت سارة لا اطرافها احداث مهمة و شخصيات لها وزنها و هي لذلك نكت وقتية مرهونة باسبابها و النكتة لها عمر و قد تستهلك و تنسى و تصبح بلا موضوع و ليس لها ما يسوغها . و البعض يلخص السرور بالنكتة بانه السرور للاشيء .
و يرد فرويد استخدام الالفاظ في النكتة هذا الاستخدام المبهج الى ما كان يحدث معنا و نحن أطفال عندما كنا جرب قدرتنا على الكلام باستخدام الالفاظ كيفما نشاء و المهم هو ان نتكلم بها و المهم ان الجميع يستملحون ذلك و يشجعونه . الى ان يأتي وقت ينهوننا عن ذلك و لكننا عنما نكبر ننكص الى الطريقة السابقة و نركب من الالفاظ الفاظا و من الاصوات كذلك لنستحدث التأثير المبهج الذي الذي خبرناه قديما و انه لحكمه صائبة تلك التي تقول ان الانسان باحث عن اللذة مثابر على البحث عنها و باي طريقة و لذلك فاه بعد ان يتعلم المنطق و يمارسه يلذ له احيانا الخروج عليه باللجوء الى سخافات كسخافات الطفولة فتعطيه راحة نفسية و اللعب عادة للاطفال . و هناك مبدأ يقول اننا نميل الى ان نكرر انفسنا و نكرر المواقف التي مرت بنا و لم يتحصل لنا منها الا الالم و لكننا نكررها هذه المرة لننزع منها عنصر الالم و تصبح في النهاية عنصر لذة و اللعب بالالفاظ و الافكار من ذلك و اعادة اكتشاف ما عرفناه قديما يعطينا اللذة .
و هناك فرق بين الهزل و المداعبة ففي المداعبة نكشف ما نعرفه و في النكتة تتميز الصياغة و في الهزل نكشف المستور و الميزة في النكتة أن لها شكلا و مضمونا و هي على ذلك ارقى انواع الهزل و ليس كل احد قادر على القاء النكتة او صياغتها لهذا السبب
النكتة لها قوة النكتة البسيطة لعب بالالفاظ و النكتة الشديدة لها اهداف بعيدة و تدخل مناطق محرمة او ممنوعة و هي تتحدى الكف و الكبت و صائغ النكتة و راويها انسان مبدع و لو جاز استخدام هذ الاصطلاح القديم اصطلاح الملكة لقلنا انعه انسان يمتلك ملكة النكتة و مع ذلك فالنكتة لها ابعاد شخصية و حبكة النكتة عمل فني الا ان عمل النكتة اي مضمونها لشبيه بعمل مرض العصاب و لن نندهش لو علمنا ان مخترع النكتة عانى اساسا من اضطرابات عصابية و انه يتوسل بالنكتة للتعبير عن المكبوت او الدوافع او الرغبات المكبوتة او انه في حالات النكتة البريئة يتوخى الاظهارية او الاستعراضية و التباهي بذكائه و ملكاته و لايسر صاحب النكتة ان يخترع النكتة لنفسه و انما هي اصلا لكي يسمعها منه الاخرون و لو كان في ذلك تضحية ببعض الاعتبارات و الشيء المضحك يمكن ان يدخل البهجة على الرائي فقط و اما النكتة فلا بد ان يكون لها المستمع و لا يكتمل البناء النفسي للنكتة الا بان يكون لها مستمع و سرور المستمع يدخل السعادة على قائل النكتة و قائل النكتة لا يضحك عليها هو نفسه على عكس الموقف الضاحك الذي قد نضحك له و لا يمنعنا ان نحكيه للاخرين و نشاركهم الضحك منه مرة اخرى .
و مع ان النكتة كما اسلفنا تستعين بميكانيزمات الاحلام من تكثيف و ازاحة و ابدال و تحريف الخ الا ان الحلم مسألة خاصة بالفرد الحالم في حين ان النكتة اجتماعية و لابد فيها من مستمع يشارك ملقي النكتة الانفعال بها . و الحلم يحتاج الى تاويل و غالبا يكون غير مفهوم في حين ان النكتة لابد ان تكون مفهومة الا انه في النكتة و الحلم تصريف طاقة حبيسة و يرفع الكف عن مسألة ما و الحلم يفصح عن رغبة مكببوتة و النكتة نوع من اللعب المتطور و نحن نحتاج الى ان ننام و لذلك نحلم و لكنا في النكتة نستمتع بممارسة نشاط لا يصدر عن حاجة معينة و الحلم محاولة لتجنب الالم و النكتة محاولة لتحصيل اللذة .
و الفرق بين النكتة و الموقف الضاحك و الفكاهة ان اللذة في النكتة مصدرها اننا نرفع الكف او القمع باقل طاقة ممكنة و هذا هو ما يريحنا و اما في الموقف الضاحك فاللذة مصدرها اننا نشحن الموضوع المثير للضحك باقل قدر من الطاقة و اما الفكاهة ففيها المشاعر و نحن نبذلها بأقل قدر ممكن من الطاقة .
المصدر : موسوعة التحليل النفسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق