ف.محمد أمين / التحليل النفسي اليوم
كنت قد نشرت هذا قبل سنوات انا من محبي تشيخوف و الادب الروسي عموما ....من الادب الروسي الى التحليل النفسي هكذا كانت رحلتي الثقافية ...
أنطون تشيخوف من المبدعين القلة في كتابة فن الرواية القصيرة ومن الأوائل الذين كتبوا للمسرح الروسي وذلك في القرن التاسع عشر وقد نال شهرة كبيرة لصدقه الفني وإبداعه في مجالات مختلفة في حقل الأدب وتجسِّيده للواقع في تلك الفترة المضطربة في تاريخ روسيا القيصرية ، وكشفه عن المعاناة والألم من خلال أعماله الأدبية المختلفة وقد أستطاع أن يجد له صوتاً متميزاً علي الرغم من وجود عمالقة الأدب وبخاصة في كتابة الرواية كدوستويفسكي وتولستوي وغيرهم من الأدباء والفنانين في تلك الفترة أو قبله بسنوات ، لكنه مع هذا أستطاع أن يجد طريقته المتميزة في كتاباته ، وبخاصة تكثيف الجملة وعدم الأطناب والسرد المجاني. والوصول إلي المبتغي بطريقة سهلة ومختصرة ، كاشفاً عن المعني وقول الحقيقة بصفحات قليلة يمكن أن تأخذ من كاتب غيره في ذلك الوقت الصفحات الطوال بجمل طويلة ورتيبة، لكنه بطريقته الاختزالية أستطاع أن يوظف الأحداث والوقائع الكبيرة بلغة وحوار مسرحيين بحيث تكون لغة السرد واضحة ومكثفة وخالية من البهرجة والمطولات الفلسفية ، لكنها في الوقت ذاته لغة فكر علمي وعملي ، لغة مكتنزة بمضامين وأفكار الواقع المعيش بطريقة بسيطة وسهلة وواضحة ، لأن ركيزة من ركائز الأدب الأولي هو الوضوح وتوصيل المفاهيم بأبسط طريقة وهذا مافعله الكاتب وأستطاع من خلال طريقته هذه والتداخل الفني بين الرواية والمسرح أن يخلق جواً جديداً لرواية القرن التاسع عشر من خلال توظيفه الحوار الذاتي لشخوصه علي مستوي فكرة البناء المتماسك حتي الوصول للهدف المنشود وذروة الحدث التراجيدي كما حدث في روايته( عنبر رقم 6) ترجمة د. أبو بكر يوسف.
عاش الدكتور أندريه يفيميتش ــ بطل الروايةــ (أكثر من عشرين سنة في مهنته ولم يعرف الألم ولم يرد أن يعرف هذا ، لم يكن يعرف ولا يتصور ماهو الألم)"1"، لكنه أصطدم به أخيراً ولمدة يوم واحد فقط، وأخذ يعاني من قسوة الألم ، ولم يتحمل ومات في صباح اليوم التالي ، بعد أن وضعوه في عنبر رقم 6 وهو عبارة عن ردهة في مستشفي المجانين ، كما يدعون، وهو طيلة تلك الفترة ( عشرين سنة) كان يعمل كدكتور في المستشفي نفسه، ويعالج المرضي الراقدين في ذلك العنبر، وبخاصة المريض إيفان دميتريتش ـــ صديق الدكتورــ الذي تحمل الألم والعذاب طوال تلك السنوات مع المرضي الراقدين في تلك الردهة، وكثيراً ما كان يتحدث مع بطل قصتنا (أندريه) ويتجادل معه في أمور كثيرة ، قبل أن يتهموا الأخير بالجنون.
هذه الحبكة هي التي وظفها الكاتب وبمعقولية عالية كاشفاً زيف الإدعاء من قبل النفوس المرائية والغبية والبليدة التي تتحكم بمصائر الناس وبخاصة المثقفين والعلماء والمخلصين في العمل ، حتي يؤدون بهم إلي الجنون ، كما حدث لبطل قصتنا( أندريه) ومريضه المثقف(إيفان) محضر محكمة سابق وسكرتير المحافظة.
الدمار أو الموت
إنَّ حكم الواقع صعب وعسير علي النفوس الأبية والحساسة من قبل المنتفعين والفوضويين واللاأباليين وبخاصة في فترة روسيا القيصرية قبل الثورة .
الشريحة المثقفة كانت تعاني من جنون الاضطهاد في تلك الفترة ،وهو مرض يقودها في الأخير إلي الدمار أو الموت ، وقد جسَّد الكاتب ذلك في عمله هذا(عنبر رقم 6) ، إذ أن (إيفان دميتريتش) كان يعاني من هذا المرض وانعكس ذلك علي تصرفاته التي قادته إلي مستشفي المجاذيب .
إنَّ التحليل النفسي للشخوص جاء من خلال واقع عملي وعلمي ، فالكاتب علي تماس من هذه الحالات بحكم واقع عمله ومشاهداته اليومية لمثل تلك الحالات ، فجاء هذا العمل الأدبي مطابق لواقع حال تلك الشرائح الاجتماعية التي كانت تعيش في تلك المدن الروسية وبخاصة بطرسبرغ وموسكو ، أنها حالة التأزم الفكري والضياع والمعاناة في ظلِّ الحكم القيصري ، وبالفعل أستطاع الكاتب أن يجسِّد تلك المعاناة البشرية والألم الذي تعيشه تلك الشرائح.
إنَّ الفوضي والبلبلة الفكرية تقود الإنسان المثقف إلي الاغتراب ، حتي عن ذاته، وتؤدي به إلي هلوسات وظنون غريبة عجيبة ، هكذا أستطاع الكاتب أن يكشف وبوقت مبكر عن المعاناة الحقيقية للمثقفين من خلال شخوصه في هذا العمل الأدبي الفريد ، وهذه واحدة من خصوصية الأدب بالإضافة إلي الوضوح والمصداقية في طرح المفاهيم والرؤي من أجل الوصول إلي الهدف المنشود، أن التوضيح ليس معناه البساطة الساذجة في الطرح ، ولكنه كالسهل الممتنع في طريقة الكتابة الأدبية ، ولكن بنبرة وتفرد بحيث نري بصمات الكاتب واضحة وصوته متميزاً من خلال المعالجة الذاتية للحدث ، وهذا يقودنا إلي ظاهرة الموضوعية في الحيز الثقافي السائد في القرن التاسع عشر، والحصيلة الفكرية لجماعات المفكرين والمثقفين في تلك الحقبة الزمنية، هكذا كان واقع الألم الإنساني الذي قام الكاتب بكشفه في(عنبر رقم 6) الذي يمثل صورة من صور البؤس في مستشفيات روسيا في تلك الحقبة الزمنية، ويعكس مدي ما وصلت إليه الطبيعة البشرية من خسة ودناءة وهي تضطهد أخوة لها في الإنسانية علي مرأي ومسمع السلطات في المدينة.
إنَّ المعالجة الذاتية وحدها لاتكفي ، لكن تحتاج إلي جهد كبير من قبل جماعات مستعدة للتغيير ، وهذا ماحدث أخيراً في انتصار الثورة علي قوي الشر في تلك الحقبة الزمنية . الكاتب كان يعي محنة الثقافة والمثقفين وحرمانهم المادي والروحي، لكنهم كانوا يتصدون للقيم البالية والمعتقدات السائدة في ذلك الوقت كما فعل كاتبنا في عمله هذا وغيرها من الأعمال وبخاصة في المسرح.
الوصف الشاعري أضفي علي العمل طابع من الرومانسية الحزينة ، تجسَّدت من خلال معاناة الشخوص المرضي قي ردهة المستشفي(عنبر رقم 6) ، إذ أستطاع الكاتب وبلغة موحية أن يكشف عن المعاناة الإنسانية لتلك النفوس ذات المشاعر الرقيقة والمرهفة الحس والمضطَهَدة في الوقت ذاته، إذ بينها الموظف والمثقف وصاحب النبالة، أنها لغة الفنان (أنطون تشيخوف) الذي يعبر بصدق عن طوية تلك النفوس البائسة في هذا السجن الموبوء، وهي ــ أي تلك الشخوص ــ التي كانت تعيش قبل ذلك في حرية ووداعة ، وهاهي اليوم تعاني من الحرمان في هذه الردهة (السجن) . لغة الكاتب جريئة وواضحة حين يشن الهجوم علي الطغاة في ذلك العصر وفي كلِّ عصر ( وهو يتحدث عن الوضاعة البشرية وعن الطغيان الذي ينتهك الحق ، وعن الحياة الرائعة التي ستكون علي الأرض بمضي الزمن، وعن قضبان النوافذ التي تذكره كل لحظة ببلادة الطغاة وقسوتهم) هذا ما ورد علي لسان (إيفان دميتريتش جرموف) في الصفحة الحادية عشرة من الطبعة العربية ـــ عنبر رقم 6، ولا غرابة في ذلك لأن الكاتب مشبع بالروح الثورية والأفكار التي كانت سائدة في روسيا ــ القرن التاسع عشر ــ والتي أدت إلي الثورة علي القديم في نهاية المطاف .
إنَّ خاصية الألم معروفة علي صعيد المرض الجسدي، ولكن الألم الروحي أو المعنوي له طابع آخر ، إذْ تعاني تلك النفوس المتألمة من فقدان الوداعة والطيبة والمودة والثقافة لدي الناس الذين يتعايشون معهم ، إذْ أغلب هؤلاء الناس من المنتفعين والوصوليين ،الذين لا يهتمون لمعاناة هذه النفوس المرهفة الحس ، حتي تؤدي بهم هذه المعاناة إلي الجنون وهذا ما كشفه الكاتب في (عنبر رقم 6) .
الألم الإنساني تجسَّد بطابع واضح وفي صفحات كثيرة من هذا العمل المتفرد ، وفي تلك الحقبة الزمنية .
إنَّ تجربة الكاتب ومرانه وتفانيه ومقدرته وموهبته الفنية أدت إلي توضيح ذلك الألم عبر جمل مكتنزة ومكثفة وغير شعائرية ، دالة علي تفرد الكاتب في عمله هذا ، فالدقة والإتقان والوضوح مطلوبة وبارزة في لغة الكاتب الصافية ، الخالية من الغموض والزوائد والشوائب أو التكرار الممل، أنها لغة الوجدان والعاطفة الجياشة ، لاخسائر فيها ، والعمل الأدبي (عنبر رقم 6) خير دليل علي ذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق