.
فـاطمـة نـاعـوت
بوذا، أو بودا Buddha، المستيقظ على الحقيقة، ذلك المستغرقُ في تأملاته، الساعي أبدًا نحو النيرڤانا عن طريق الارتقاء الجسدي والروحي، وسيغموند فرويد، ذلك المُغرِقُ في ربط الإنسان بالفيزيقا، المكرِّسُ أبدًا ردَّ كلِّ سلوك بشريٍّ إلى منطلق جنسي – هذان الضدَّان المتنافران، هل يلتقيان يومًا، يتصافحان، ثم يسيران معًا في اتجاه واحد، صوب هدف واحد؟! – ولنقل الأخلاق أو الفضيلة مثلاً.
يحاول كتابُ فرويد وبوذا، التصوف البوذي والتحليل النفسي، من تأليف كلٍّ من إريش فروم و د.ت. سوزوكي، أن يفتش عن وشيجة ما – إنْ كان ثمة – أو حتى عن الهوَّة الفاصلة بين منظومتين إنسانيتين تبدوان، للوهلة الأولى، متنافرتين، ليس من رابط بينهما بقدر ما بينهما من تناقضات: بوذية زِنْ ذات القوام الشرقي، التي تعتمد التجريدية العقلانية الهندية والصينية من جهة، ومن جهة أخرى، التحليل النفسي الذي هو ابن أصيل لتزاوج العقلانية الإنسانية الغربية مع رومانسية القرن التاسع عشر الأوروبي، ذلك المنزع الذي تمتد جذوره السلفية الأولى إلى الحكمتين الإغريقية واليهودية القديمتين في بحثهما عن ماهية الإنسان والقوى الغامضة التي تسيِّره. وإذ ينهجُ التحليلُ النفسي النهج العلمي شديد العقلانية، فإن بوذية زِنْ تنحو المنحى الوجودي الروحي، حتى لتقترب في تعريفها من منظومة الدين والتصوف، بوصفها نظرية الوصول إلى الاستنارة. وإنْ سعى التحليل النفسي في استخلاص الإنسان من أمراضه الذهنية (العُصاب)، فإن البوذية تتوقُ إلى الخلاص الروحي للإنسان. بين ركام تلك التباينات المفصلية كلِّها، هل يمكن للسعي وراء أية روابط بين تلكما المنظومتين أن يؤدي إلى نتائج إيجابية ما؟
تلكم هي مسألة الكتاب، وذلكم هو مبحثه: محاولة عقد نوع من المقارنة "الحذرة" بين منظومتين يبدو، ظاهريًّا، بينهما من التنافر أكثر مما بينهما من التآلف، وإنْ ظلَّ الإنسان وطاقته الذهنية والروحية هو شاغلَهما الشاغل الأول والرئيس. كما يرى الكتاب أن ثمة اهتمامًا متزايدًا وصحيًّا ببوذية زِنْ بين المحلِّلين النفسانيين المحدثين، فيحاول أن يتقصَّى مصادر هذا الاهتمام ومعناه والدلالة المستقرأة منه.
إريش فروم (1900-1980)
د.ت. سوزوكي (1870-1966)
وأما صانعو هذا الكتاب المهم، الذي غدا في حلَّته الجديدة بعد تجميع المحاضرات وترجمتها، عربيًّا، فثلاثة – المؤلِّفان: إريش فروم، محلِّل نفسي ألماني–أمريكي ذو أصول يهودية، يُعَد أحد عمالقة التحليل النفسي ورائد النزعة الإنسانية في علم النفس، إذْ هَدَفَ إلى تكوين منهج توفيقيٍّ علميٍّ يجمع بين الفرويدية، التي تبحث في المنزع الإنسانيِّ، وبين الماركسية التي تبحث في الدوافع الاقتصادية؛ ود.ت. سوزوكي، حكيمٌ وعالِمُ أديان ياباني، يجمع بين الخبرة الروحية والمنهج الأكاديميِّ، وهو أول مَن عرَّف ببوذية زِنْ في الغرب؛ ثم مترجمنا العربي د. ثائر ديب، باحثٌ من سورية، يعمل في مجال الترجمة، وعرَّب للمكتبة العربية عددًا من أمَّهات الكتب في المجالين النفسي والصوفي والديانات الشرقية.
ثائر علي ديب، مترجم الكتاب
فأما جوهر منظومة الزِنْ، فقد عرَّف به سوزوكي بأنه فن تبصُّر المرء بطبيعة ماهيته، بوصفه دليلاً ومرشدًا إلى طريق الرحلة من العبودية إلى الحرية عن طريق تحرير كلِّ الطاقات الخبيئة على نحو مفطور داخل كلِّ بشري. فتلك الطاقة تكون، في الأحوال العادية، محبوسةً ومشوَّهة، فلا تجد قناةً أو متنفَّسًا لتفعيل نشاطها. وعلى هذا، فإن غاية زِنْ هي أن ينقذ الإنسان من الجنون أو من العجز والقُعاد. وأما الحرية التي يعنيها سوزوكي، فهي إفساح المجال أمام سائر الدوافع الخلاقة والخيِّرة، الكامنة أصلاً في قلوبنا، بحيث يمكن لها أن تتحرك حرة طليقة. فنحن، في صورة عامة، عميان تجاه هذه الحقيقة: حقيقة أن في حوزتنا كلَّ القدرات والإمكانات الضرورية لجعلنا سعداء، يحبُّ واحدُنا الآخر.
هذا ويسعى الكتاب في صبر إلى قضيته الأساس من حيث البحث عن العلاقة بين التحليل النفسي وبوذية زِنْ، فيتعرَّض لوجه من أوجُه الألفة الثانوية بين الاثنين، وهو التوجه الأخلاقي الذي يتقاسمه كلٌّ من زِنْ والتحليل النفسي. فلكي تتحقق غايات زِنْ لا بدَّ من التغلب على الجشع، سواء كان جشعَ التملك أو جشع المجد أو أيَّ شكل آخر من أشكال الجشع، مثل الحسد والشهوة وغيرها. وهذا بالضبط ما يهدف إليه التحليل النفسي: ففي النظرية الفرويدية تتطور الليبيدو libido (وهو مصطلح لاتيني الأصل أطلقه فرويد على النزعات أو الرغبات التي تسيطر على الإنسان) من التوجُّه الاستقباليِّ المُتلقِّي، مرورًا بالتوجُّه الاستغلالي، الادِّخاري، التسوُّقي، وصولاً إلى التوجُّه المُنتِج الغيري. ويبقى الأمر الأساسي، بصرف النظر عن المصطلحات المستخدَمة، أن الجشع، في المفهوم التحليلي النفسي، هو ظاهرة مَرَضية، تسود حين لا يكون المرءُ قد طوَّر قدراتِه وطاقاتِه المنتجة الفاعلة.
على أن التحليل النفسي ليس منظومة أخلاقية في المقام الأول؛ وكذلك زِنْ. ذاك أن غاية زِنْ تتعالى عن الغاية التي يضعها السلوكُ الأخلاقي نصب عينيه؛ وكذلك غاية التحليل النفسي. إلا أن من الممكن القول إن كلا المنظومتين تفترضان أن يتماشى تحقيقُ غايتهما مع تحوُّل أخلاقيٍّ إيجابيٍّ ما، يتمثَّل في التغلب على الجشع وفي القدرة على الحبِّ والإيثار والرحمة. فهما – التحليل النفسي وزِنْ – لا يريدان دفع الإنسان إلى عيش حياة "فاضلة" عن طريق قمع الرغبة "الشريرة"، وإنما يتوقعان أن تذوب هذه الرغبة الشريرة وتتلاشى من تلقاء ذاتها تحت نور الوعي المتعاظم ودفئه. ومن الخطأ أن نعتقد أن من الممكن فَصْل غاية زِنْ – الاستنارة – عن هذا التحوُّل الأخلاقي من دون تغلُّب على الطمع وعلى تمجيد الذات والحماقة، أو أن من الممكن تحقيق ساتوري satori، أي الاستنارة، دون التواضع والمحبة والرحمة. ومن الخطأ أيضًا أن نفترض أن من الممكن تحقيق غاية التحليل النفسي ما لم يحدث تحوُّل مماثل في طبع الشخص: فمَن يبلغ الطور المُنتِج يكون قد كفَّ عن الجشع وتغلَّب، في الوقت ذاته، على إحساسه بالعظَمة وعلى أوهام القدرة والمعرفة الكلِّيتين؛ فتراه متواضعًا، ينظر إلى نفسه كما هي عليه حقًّا. وإذًا، فإن ما يرمي إليه كلٌّ من زِنْ والتحليل النفسي يتعالى عن الأخلاق؛ إلا أن من غير الممكن تحقيقه ما لم يحصل تحوُّل أخلاقي.
مادة الكتاب، في الأصل، جزء من حلقة دراسية في بوذية زِنْ والتحليل النفسي انعقدتْ برعاية قسم الطب النفسي بكلية طب جامعة مكسيكو الحرة في خمسينيات القرن الماضي؛ وقد شارك فيها خمسون طبيبًا وعالمًا نفسيًّا من المكسيك وأمريكا، إلى جوار محاضرات د. سوزوكي وإريش فروم. ويتناول الكتاب عدة موضوعات، منها: "الأزمة الروحية الراهنة ودور التحليل النفسي"، "القيم والغايات في المنهج الفرويدي"، "الكينونة الحقة وطبيعتها"، "طبيعة الوعي"، "مبادئ بوذية زِنْ"، "طُرُق إزالة الكبت وتحقيق الاستنارة"، "اللاوعي ومفهوم الذات في بوذية زِنْ"، وغيرها من الموضوعات الملهِمة والشائقة والمهمة.
يبقى فقط أن آخذ على الكتاب عدم تعريفه بمؤلِّفَيه، ولو على نحو إشاريٍّ موجز. فليس كل قارئ مطالَبًا بمعرفة فروم وسوزوكي. وحيث إن مادة الكتاب مجموعة من المحاضرات والحلقات الدراسية، فإن هذا الأمر – وأعني التعريف بالمؤلِّفَين – كان حريًّا أن يقوم به المترجم، الذي بذل بالفعل جهدًا نبيلاً نثمِّنه ونمتنُّ له عليه، سواء في هذا الكتاب أو في كتبه الأخرى التي أثرى بها المكتبة العربية.
منقول للفائدة
الصورة : زازِنْ أو "الجلوس الصامت"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق